شُرِعت عبادة تلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان، وفي بيان فضل ذلك، رُوي عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّه قال: (الصِّيامُ والقرآنُ يشفَعانِ للعبدِ يومَ القيامةِ يقولُ الصِّيامُ أي ربِّ منعتُهُ الطَّعامَ والشَّهواتِ بالنَّهارِ فشفِّعني فيهِ ويقولُ القرآنُ منعتُهُ النَّومَ باللَّيلِ فشفِّعني فيهِ قالَ فَيشفَّعانِ)، كما أنّ جبريل -عليه السلام- كان يُدارس النبيّ -عليه الصلاة والسلام- القرآن في رمضان، وليست قراءته قاصرة على الترتيل فله آداب باطنة وجب استحضارها كي تنول الخير في دنياك وآخرتك، في هذه التدوينة اعرض لكم ملمح سريعا في ضوء الكتاب والسنة عن بعض من تلك الآداب. ففي أعمال الباطن في التلاوة وهي عشرة: فهم أصل الكلام، التعظيم، حضور القلب، التدبر، التفهم، التخلي عن موانع الفهم، التخصيص، التأثر، الترقي، التبري، وسنذكر فقط أول أربعة.
1- فهم أصل الكلام: وهو فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله سبحانه وتعالى ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة إفهام خلقه.
2- التعظيم للمتكلم: فالقارىء عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر وأن في تلاوة كلام الله عز وجل غاية الخطر فإنه تعالى قال "لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ" وكما أن ظاهر جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان متطهراً فباطن معناه أيضاً بحكم عزه وجلاله محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان متطهراً عن كل رجس ومستنيراً بنور التعظيم والتوقير وكما لا يصلح لمس جلد المصحف كل يد فلا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان ولا لنيل معانيه كل قلب.
لكي يستطيع القلبُ مسّ المعاني القرانية وتذوقها فلا بد أن يتطّهر من الأهواء التي تصرفه عن القران وتحجبه عنه، فيُحضر قلبَه ويُنقيَه من المشاغل الدنيوية ويذود عن حياضه هجمات الأهواء والأطماع والرغبات |
ولمثل هذا التعظيم كان عكرمة بن أبي جهل إذا نشر المصحف غشى عليه ويقول: هو كلام ربي هو كلام ربي فتعظيم الكلام تعظيم المتكلم ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله. فإذا حضر بباله العرش والكرسي والسموات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار وعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد وأن الكل في قبضة قدرته مترددون بين فضله ورحمته وبين نقمته وسطوته إن أنعم فبفضله وإن عاقب فبعد له وأنه الذي يقول هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي وهذا غاية العظمى والتعالي. فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام.
3- حضور القلب وترك حديث النفس: قيل في تفسير "يا يحيى خذ الكتاب بقوة" أي بجد واجتهاد وأخذه بالجد أن يكون متجرداً له عند قراءته منصرف الهمة إليه عن غيره وقيل لبعضهم: إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بشيء فقال أو شيء أحب إلي من القران حتى أحدث به نفسي! وكان بعض السلف إذا قرأ آية لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية وهذه الصفة تتولد عما قبلها من التعظيم فإن المعظم للكلام الذي يتلوه يستبشر به ويستأنس ولا يغفل عنه.
4- التدبر: وهو وراء حضور القلب فإنه قد لا يتفكر في غير القرآن ولكنه يقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبره، والمقصود من القراءة التدبر. ولذلك سن لأن الترتيل فيه الترتيل في الظاهر ليتمكن من التدبر بالباطن. قال علي رضي الله عنه: لا خير في عبادة لا فقه فيها ولا في قراءة لا تدبر فيها. وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد فليردد إلا أن يكون خلف إمام.
وأخيرا يستنبط الإمام المجد أبو حامد الغزالي معنىً بديعًا من قول الله سبحانه (لا يمسّه إلا المطهرون)، "فكما أنه لا يمسّ ظاهرَ القران وورقَه ألا متطهر طهارة حسية، فكذلك معاني القران الباطنة(=الإيمانية) محجوبة عن القلب، لا يمسها إلا إذا كان متطهرًا عن كل رجس، ومستنيرًا بنور التعظيم والتوقير لله سبحانه". فلكي يستطيع القلبُ مسّ المعاني القرانية وتذوقها فلا بد أن يتطّهر من الأهواء التي تصرفه عن القران وتحجبه عنه، فيُحضر قلبَه ويُنقيَه من المشاغل الدنيوية ويذود عن حياضه هجمات الأهواء والأطماع والرغبات، "فكما أنه لا يصلح لمسِّ جلد المصحف كلُّ يدٍ؛ فكذلك لا يصلح لتلاوتِه كلُّ لسان، فكما أنه لا يصلح لمسِّ جلد المصحف كلُّ يدٍ؛ فكذلك لا يصلح لتلاوتِه كلُّ لسان، ولا لنيل أسراره كلُّ قلب… فتعظيم الكلام من تعظيم صاحبه".
ولكن كيف يؤمن الكافر لسماعه القرآن اذا كان هذا صحيحا وكيف أقر بلغاء مشركي العرب لبلاغته وحاروا في وصفه وأمن بعضهم ومن أستكبر منهم إنما أبى عصبية وإن كان أقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مما وصف به من سحر وشعر وغيره؟ فالمشركون قد يسمعون الآيات ويلاحظون بعدها الإعجازي اللغوي ويلاحظون عظمة مضمونها وسمو مقاصدها، فهذه معاني ظاهرة يدركها أهل الاختصاص سواء كانوا العرب الذي عاصروا التنزيل، أو المختصون من بعدهم، وتلك المعاني الظاهرة قد تفضي إلى الإيمان وقد لا تفعل، -كما حصل تأريخيا- فالهداية للإيمان لها أسباب متعددة، منها الوحي القراني لما قرأه في مستواه الظاهر هذا وكان صادقًا في بحثه وطلبه للحق، ثم وفقه الله للإيمان، أما ما يتناوله أبو حامد فهو مستوى إيماني، لنقل (المعاني الإيمانية) ولنقل (معنى المعنى) الذي للمتلقي دور في تلقيه والتجلي له والانكشاف عليه، فهو عطاء إلهي ومن هذا استنبط بعض أهل العلم من قوله تعالى "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" نظير معنى ما قاله الغزالي.
وأظن بأنه لا تعارض بين الاعتراض وبين الاستنباط وحل المعضلة في هذه الآية "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" فالآثار من الذنوب والمعاصي تورث الغفلة والإعراض عند سماع القرآن، والتوبة هي شكل من أشكال الانعتاق من هذه الأدران والصدق في طلب الهداية وكذلك من طلب الهداية من القرآن بصدق وألقى سمعه وانصرف عن الشواغل فإنه يهدى إلى معانيه حتى وإن لم يتحصل قلب "متطهر"!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.