في الحقيقة جاء انتشار الوباء ليكشف لنا عن المشاكل الكبيرة التي تعاني منها مجتمعاتنا بشكل عام والشبابية منها بشكل خاص، لم يأت انتشار الوباء ليكشف فقط النظام الصحي المتهالك في دول العالم الثالث الذي ما خجلت من الاعتراف به، أو ما فضح به زيف قوة النظام الصحي والاقتصادي في الدول المتقدمة من خلال طلبها لكوادر طبية وتجهيزية كي "تبقى واقفة على رجليها" كما يقال. لقد كشف الوباء المشاكل في عقول المجتمع: السرعة في الحكم على الأمور أو حتى الاقتناع السريع أيضا بمنشورات مواقع التواصل الاجتماعي التي تحاول تبني وجهات نظر أو "حقائق" من منظور مثير للجدل ولافت للانتباه.
انسجاما مع فكرة تسرع الحكم أو تسرع الاقتناع، إن أي يوتيوبر أو شخص مشهور أو أحيانا أطباء بشريون يستطيعون طرح فرضيات عن الفيروس تلاقي رواجا واسعا من الجمهور، ظهر ذلك الأمر عندما كان الوباء منتشرا في الصين فقط، فظهوره بداية في الصين كان التفسير بالمعاقبة الإلهية لتناول المحرمات، وحين أغلقت المساجد فالتأويل كان بلاء للعودة إلى الله وحالما اختفى في الصين كان الحديث عن سلاج بيولوجي صيني للسيطرة على الكوكب! ليست القضية هي إثارة الجدل وإنما الحديث وفق المعرفة وعدمها، ولعل التصريح الشهير ليورغن كلوب مدرب ليفربول عند سؤاله عن الفيروس كان كافيا ووافيا بأن كونه مشهورا لا يخوله الحديث عن الفيروس وتفسير قضاياه بل ترك هذا الأمر لأصحاب التخصص.
كثيرة هي الاستشهادات التي تستخدم لجعل فيروس كورونا بلاء يهاجم البشرية للتوبة، بصرف النظر عن حكمة الله العظيمة في قدره التي تفوق في كثير منها قدرة عقول البشر، فإن تطبيق البلاءات السابقة على الوباء الحالي ليس منطقيا |
ليس تقليلا من شأن الأطباء وعملهم الإنساني الكبير الذين يقومون به الآن في مكافحة الفيروس، بل عتابا لطيفا لبعضهم، حيث للأسف ينتشر كلام مثير للشفقة لبعض الأطباء يلاقي رواجا من الفئة الشعبية التي لا تملك رصيدا واسعا من المعرفة الطبية لتحصين نفسها من الاقتناع به. أحيانا الموضوع يخرج من قالب الفرضية ويدخل قالب الخيال، فمثلا حديث أحد الأطباء أن الماء يكون كفيلا أحيانا بقتل الفيروس، وأنه لا داعي أبدا للمعقمات الطبية، وكتسويق للفكرة يتجه للإطار الديني لجعلها متقبلة من الجمهور من خلال إسقاطها على الوضوء في الإسلام وما له من دورية يومية في حياة المسلمين، وبذلك كما يزعم أن المسلمين "محصنون" من الأمراض المعدية! وهذا ما يبرر الانتشار الواسع في أمريكا وأوروبا! قضية الطب قضية عظيمة للغاية وخصوصا في وباء كهذا، لا يجري الأمر بأن يعطي الأطباء آرائهم وأفكارهم الخاصة -الغريبة أحيانا- ومن ثم يقتنع المجتمع بذلك كونه خرج من لسان طبيب.
للأسف إنها النظرية التي يحبها الجميع، فنفسيا عندما يتحدث أحدنا عن نظرية المؤامرة يشعر بارتياح نفسي تجاه أفعاله الخاطئة، ومن منا لا يخطئ، وبالتالي فإننا لا نشعر بالأخطاء تلك عندما نقنع أنفسنا بأن هناك دولة كاملة قررت نشر الفيروس في دول العالم لقتل البشر، يشعرنا ذلك على الرغم من هوله بالارتياح، فترانا نرى أنفسنا بقالب وردي أننا أشخاص طيبون لا نؤذي نملة وهذا للأسف يأتي من النظر إلى الفيل الكبير الذي بنظرنا "يتآمر".
بشكل عام هي مشكلة المجتمع العربي عموما، حدث ولا حرج عن المواقع العالمية الموثوقة التي تفضح ضعفنا في هذا المجال، في الحقيقة الحديث عن القراءة لا يتبع تصنيف (مثقف-غير مثقف) الذي قد يصنفه أحدنا، بل يتبع تصنيف (محصن-غير محصن)؛ أي أننا عندما نقرأ نصير -وإن لم نتأثر بالقراءة كي نكتب- على الأقل محصنين تجاه الأفكار المثيرة للجدل والخيالية التي قد نتشربها بسهولة عندما لا نملك أسلحة فكرية في عقولنا لمحاكمتها، أسلحة لا تأتي من ميدان الحياة أو من تربية العائلة كثيرا بل من عقول الكتاب.
كثيرة هي الاستشهادات التي تستخدم لجعل فيروس كورونا بلاء يهاجم البشرية للتوبة، بصرف النظر عن حكمة الله العظيمة في قدره التي تفوق في كثير منها قدرة عقول البشر، فإن تطبيق البلاءات السابقة على الوباء الحالي ليس منطقيا، لا يوجد حقيقة نص ديني واضح ينفي أو يثبت ذلك على وبائنا الحالي، وموقفنا من ذلك إذا هو أن نسمع، ولا ننفي أو نثبت كذلك. لهذا الأمر للأسف خلفيات تاريخية كثيرا ومنها فيروس الإيدز في الثمانينات وفيروس الإنفلونزا في مرحلة الحرب العالمية الأولى، نعم ربما أحدها يكون كذلك فعلا لكنها تبقى (ربما) وهذا ما نحتاج لأن نضعه في عين الاعتبار.
أيا كان ما يفعله هذا الوباء ما علينا سوى توجيهه إلى الأفضل لنا، أن نمضي خطوة إلى الأمام ونتلافى أخطائنا السابقة التي جعلتنا نحكم عليه بسرعة، إن الحجر الصحي بالفعل خلوة مهمة كي يؤمن لنا هذه الفرصة لتقييم الذات والنهوض بها، لا أن يجعلنا لقمة سائغة لمنشورات مواقع التواصل السطحية أو آراء تسويقية للبعض يحاول الفوز فيها بإثارة عقول المجتمع وتغييبه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.