شعار قسم مدونات

بعد كورونا.. هل يتفطن العرب لقيمة رأس المال المعرفي؟

blogs محاضرة جامعية

لقد أضحت المعرفة ورأس مال الأفكار رافدا حيويا لاقتصادات الدول الحديثة القائمة على مفهوم مجتمع المعلومات الرقمي، فتغيّرُ الأنماط المجتمعية العصرية وبروز أذواق وحاجات وعادات وأساليب جديدة للحياة على المستوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي والمهني والتعليمي، كان نتيجة حتمية للتحول الجذري في الطبيعة التكوينية والوظائفية للمجتمعات، واتجاهها نحو الاستثمار في المعرفة بحثا وإنتاجا وتطويرا.

 

وفي هذا السياق يشير د.سعود بن ناصر الديامي-رئيس جامعة السلطان قابوس-إلى أن: "ظهور مجتمع المعرفة يرتبط بنتائج التقدم غير المسبوق الذي تعيشه الإنسانية في مجال تقنية الاتصال والمعلومات، هذا الوضع الجديد فرض تحولات جذرية في أساليب الحياة المعاصرة، وربما مغايرة عما كان مألوفا في الماضي في مجال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى جانب دوره المؤثر في إحداث تغييرات واسعة النطاق على مستوى النظم والمؤسسات المختلفة.

 

 إن هذا المجتمع يتقدم في مختلف جوانب الحياة من خلال استخدامه للتقنية الحديثة التي تتراكم بتسارع مذهل. "وقد قال قبل ذلك لِيُوتَارLiotar في كتابه"شرط ما بعد الحداثة" أن: "المعرفة قد أصبحت وستظل من أهم مجالات التنافس العالمي من أجل إحراز القوة، ويبدو من غير المستبعد أن تدخل دول العالم في حرب من أجل السيطرة على المعلومات كما حاربت في الماضي من أجل السيطرة على المستعمرات. "أما أَلْفِين تُوفْلَرْ Alvin Tofflerالخبير في استراتيجيات إدارة المعرفة، فيرى: "أن القوة في القرن الواحد والعشرين لن تكون في المعايير الاقتصادية أو العسكرية ولكنها تكمن في عنصر المعرفة." إن هذا الكلام يَنِمُّ عن إدراك ووعي بحقيقة راسخة لا مناص عنها، وهي أن المنهج الأساس لبناء المجتمعات وتأمين السير نحو المستقبل-أي امتلاك رؤية سليمة للتطوير والازدهار-هو الاستثمار في رأس المال البشري والمعرفي(الفكري)الذي هو أساس أي استثمار فعال ومربح ومنتج. فما هو حظ الدول العربية من هذا الاستثمار؟ وهل سيعيد فايروس كورونا الاعتبار للقيمة الاستراتيجية لهذا المورد اللامادي؟

 

لقد عاين المجتمع الدولي الآثار الوخيمة التي سببها هذا الكائن المجهري الميت المسمى "كورونا Covid19″وما تبع ذلك من اختلالٍ في النظام الصحي والاقتصادي والاجتماعي للدول، وإرباكٍ للعلاقات الدولية، فَلَفَحَ بلهيبه جميع الدول بمستويات متباينة، وكانت الأشد ضررا هي الدول الأكثر تطورا وتمكّنًا من الآلة العسكرية والمقدرة التكنولوجية والثروة المالية والمادية، فهل حاربت هذا الوباء بترسانتها العسكرية أو الاقتصادية؟ كلا! فلقد شاهدنا كيف تقدم الأطباء والعلماء الجبهات الأمامية وتزحزح الرؤساء والقادة، وكيف أن العالم أجمع ينتظر بشغف نتائج الأبحاث والمختبرات والتجارب الجارية على قدم وساق لإيجاد اللقاح اللازم لهذا الوباء، إنه العلم حين يفرض سلطانه على الأمم عندما تُعْيِيهَا الحِيلَةُ وتُعْوِزُهَا العَيْلَة، ولهذا كان للمعلم والطبيب والباحث بهذه المجتمعات تقديرا لا يضاهى ومرتبة اجتماعية سامقة، واحتفاء شعبيا ورسميا عز نظيره.

   undefined

 

نستذكر في هذا السياق قول مؤسس نهضة سنغافورة "لي كوان يو" حين أجاب عن سر نهضة سنغافورة قائلا: "رفضت أن أوجه موارد الدولة لشراء السلاح كما يفعل حكام العالم الثالث، بل وجهت معظم موارد الدولة للتعليم، فتحولت سنغافورة من دويلة فقيرة مديونة إلى واحدة من أسرع اقتصادات العالم نموا، فالتعليم هو سر نجاح سنغافورة." وأردف قائلا: "إلى أي درجة كانت سنغافورة الستينات قاسية: فقر ومرض وفساد وجريمة…حتى قال الجميع: الإصلاح مستحيل، لكنني الْتَفَتُّ إلى المعلمين وكانوا في بؤس وازدراء، ومنحتهم أعلى الأجور، وقلت لهم: أنا أبني لكم أجهزة الدولة وأنتم تبنون لي الإنسان."

 

هذه هي منزلة المعلم والطبيب والباحث عند الأمم المتحضرة، أما إذا بحثنا عن منزلتهم بالدول العربية فسنجد العجب العجاب! فغالبيتها لا ترى الاستقرار إلا في قوة الجيوش وسلطان العسكر، وفي الوقت الذي تغيرت فيه مفاهيم الحروب الحديثة، ومعايير القوة الذكية والحروب الجرثومية وبالوكالة والهجومات السايبرانية، التي تستخدم فيها قوة الذكاء الصناعي والرقمي وتكنولوجيا الاتصال فائقة الجودة، وأساليب تحطيم وإعادة تشكيل الوعي، لا تزال غالبية الدول العربية تغدق بالإنفاق على التسليح ومجالات الترفيه والرياضة والفن دون العناية بالمستشفيات والمدارس ومراكز البحث؟ أما وضع المعلم والطبيب والباحث فهم في الدرك الأسفل من السلم الاجتماعي والاهتمام الرسمي، نعم إنها الحقيقة المؤلمة!

 

بل وأكثر من ذلك فعندما يتظاهر الطبيب أو المعلم مطالبا بأبسط حقوقه الإنسانية وبتحسين حالته الوظيفية، يُسْحَلُ في الشوارع وينكّل به ويقذف بالقنابل المسيلة للدموع ويضرب بالعصي ويركل بالأرجل، وتستباح معه كل الحرمات، تلك هي الصورة النمطية التي تفضل هذه الأنظمة رسمها عن رجال المعرفة في مخيلة الأجيال المتلاحقة، وللأسف فالنتيجة ستكون حتما كما يقول "د.فيكتور شيا" خبير جودة التعليم بكوريا الجنوبية: "لا توجد دولة تتحمل إيجاد جيل كامل دون تعليم جيد، فهذا الجيل سيدمر الدولة داخليا لتتفتت وتفقد وجودها."

 

نعم، إن تكلفة إبقاء أجيال متتابعة على الجهل وقلة الوعي، ستكون باهظة على الاقتصاد والتنمية، فحكومات العالم الثالث تعتقد بعدم جدوى الاستثمار في التعليم لأنه استثمار متهالك ولا يقدم عوضا ماديا يوازي ما ينفق عليه من ميزانيات، والحقيقة على خلاف ذلك تماما، فقط أكدت التجارب الإنسانية في التنمية البشرية والتطوير المهاري وخبرات الدول الرائدة؛ أن كلفة الإنسان الجاهل أو الأميّ على المجتمعات هي باهظة ومتعاظمة عبر الزمن، لأنه بممارساته السلبية التي تكون غالبا معطلة للتنمية وشروط الحضارة، فإن ما تنفقه الدولة على جميع القطاعات الأخرى سيفقد فاعليته ونجاعته بسبب غياب الكفاءة والعنصر البشري المتعلم والكفء والقادر على الاستثمار الجيد وتوظيف معارفه وذكائه في تخفيض كلفة المدخلات وتحويلها إلى مخرجات أعظم، وتقليص حجم النفقات من خلال ابتكار طرق عمل أكثر فعالية. فالاستثمار في التعليم تظهر نتائجه بصورة غير مباشرة-وعلى المدى المتوسط والبعيد-في كل القطاعات والمجالات الحيوية الأخرى، وهي نتائج مؤكدة ومضمونة وليست من قبيل المخاطرة، وهذا هو سر نهضة الدول الرائدة التي وجهت بوصلة تنميتها نحو الاستثمار في التعليم كسنغافورة وتركيا وماليزيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.

 

إن التعليم هو روح الأمم، وبقدر ما تحمله هذه الروح من قيم إيجابية، بقدر ما تكون طاقة الأمم في التغيير أقوى وأكثر حيوية وحافزية، فما بالك حين تخبو هذه الطاقة، وما بالك حين تزهق تلك الروح…إنه الفناء والسقوط في العدم! إن كورونا يؤدبنا وبكل قسوة، ويعلمنا أنه لن تقوم لنا قائمة دون الاستثمار في رأس المال المعرفي، وتوجيه بوصلة الاهتمام نحو الإعلاء من قيمة العلماء والمخترعين والأساتذة والأطباء والباحثين، وكل العاملين في وظائف بناء وتنمية الإنسان، يقول المثل الصيني: "إذا أردت أن تزرع لسنة فازرع قمحاً، وإذا أردت أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجرة، أما إذا أردت أن تزرع لمئة سنة فازرع إنساناً."