شعار قسم مدونات

"جنين 2002" بين التفكك والتشظّي والأيديولوجيا المضمرة

blogs جنين 2002

حين طلب مني صاحبي قراءتها، ووجدته قد عرضها باقتضاب على صفحته في فيسبوك، قلت لنفسي: لا بد أن الرواية تستحق، وعليك ترك أو تأجيل ما بيدك كي تبدأ بقراءتها دون تسويف؛ والسبب هو معرفتي بهذا الصاحب؛ فهو يحفظ أجزاء من القرآن الكريم، ويحفظ معظم ألفية ابن مالك، والأجرومية، وهو مدرس لغة عربية، فكان حكمي أن مثله لن يدلك ويشجعك على نص ضعيف، أو فارغ  من المبنى والمعنى؛ لا بد أنها رواية قيمة جدا، ما دام صاحبي -بصفاته التي ذكرت- هو من دعاني إلى قراءتها.. بكلمات أخرى بدأت بقراءة الرواية واضعا صاحبي، وما أعرفه عنه في ذهني، قبل أن أعرف شيئا، حتى عن كاتب الرواية، بل المعلومات الأولية عن الكاتب أخذتها من صاحبي، وكعادتي منذ سنوات، أحببت تسطير مقالة عن أي رواية أقرؤها، وهذه نصيحة من صحفي كبير السن ألقاها على مسامعي قبل حوالي عشرة أعوام.. وكما أقول عند الكتابة عن أي رواية: لست في معرض النقد الأدبي بأدواته التي لها أهلها، بقدر تقديم قراءة وانطباع وملاحظات وخواطر.. أما بالنسبة لصاحبي الفاضل فهو بصدد إعداد بحث جامعي عن الرواية، وربما هذا سرّ اهتمامه بها.. طبعا لست أنا أول-وربما لن أكون آخر- من كتب عن هذه الرواية، فقد كتب عنها روائيون وصحفيون، ونوقشت في جامعة بير زيت، وفي منتدى اليوم السابع الثقافي في القدس وغيرها، وطريقة تناولي للرواية ربما تختلف عنهم في قليل أو كثير، ودوما أقول ما دامت الرواية قد نشرت فهي ملك القارئ سواء أكان من أهل الأدب والنقد أو سواهم.

إعلان

  

مع الرواية.. جنين 2002

يمكن قراءة الرواية خلال جلسة واحدة فهي سهلة وقصيرة عدد صفحاتها (212) صفحة من القطع المتوسط وعدد الكلمات في كل صفحة قليل؛ بالنسبة لي قرأتها في جلستين اثنتين، وهي صادرة عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) في بيروت، وهذه المؤسسة أصدرت ونشرت روايات عمالقة الروايات العربية منهم على سبيل المثال، لا الحصر، عبد الرحمن منيف، وعند رؤية اسم المؤسسة؛ توقعت أن تكون الرواية بنفس نسبة(الدسم) المعتادة في إصدارات المؤسسة.. وهذا توقّع تبين لي أنه ليس في مكانه. الطبعة الأولى صدرت في عام 2014، أي قبل حوالي ستة أعوام؛ هل تأخري في قراءتها، عوضا عن عدم سماعي بها مؤشر على عدم متابعتي؟ ربما نعم، وربما لا.. وهذا ليس مهما بعد أن صرت ممن قرأها وها هو يكتب عنها.

 

الكاتب هو (أنور حامد) وهو كاتب فلسطيني من بلدة عنبتا قرب مدينة طولكرم والتي لا تبعد كثيرا عن مدينة جنين ومخيمها (موضوع الرواية)، ويشار أن الكاتب له القدرة على الكتابة بلغات ثلاث: العربية والإنجليزية والمجرية، وله إصدارات أدبية مختلفة من الشعر والروايات، وبدأت رحلته مع الكتابة والنشر قبل حوالي أربعين عاما.. مع ذلك هذه أول رواية أقرؤها له.. ولا داعي للاستعراض الكاذب؛ فكما قلت في مقالتي المنشورة هنا بواكير عام 2017 (الصراحة مع القراءة) بأن يكون المرء صريحا ولا يزعم قراءة أي نص لم يقرأه حتى لو كان مما بلغت شهرته الآفاق.. وهذا حالي مع كتابات أنور حامد؛ أول مرة أقرأ له، وهو ليس من الكتاب المعروفين لدى العبد الفقير.

 

صعوبة الحيادية والفصل بين الأدب والواقع

صارت الديباجة المعروفة عند الأدباء والنقاد؛ هي أن تشابه أحداث رواية مع الواقع ليس مقصودا بذاته؛ وأنه لا يجوز محاكمة نص أدبي يظل في دائرة الفن والخيال، إلى عالم الأحداث الحقيقي، وما فيه من توثيق وتأريخ.. هذا صعب يكاد يلامس المحال؛ خاصة عند الكتابة عن حدث معروف قريب، وليس من الماضي السحيق الذي تجوز فيه المناورة على قاعدة(اختلاف المؤرخين وعدم دقة النقل وما شابه) فكيف إذا كان الحدث هنا-بالنسبة لي- شيء عشته وتأثرت به؟وهو أحداث معركة مخيم جنين في نيسان/أبريل 2002 وما رافقها وما تبعها؟ فأنا كنت شاهد عيان على جزء من الأحداث الرهيبة، ونالني شيء من تبعاتها، وما لم أشهده عرفته لاحقا بطريقة أدق.

   undefinedالكاتب (أنور حامد) كان حذرا فهو في التنويه الذي بدأ فيه الرواية أشار بأن تناوله لشخصية (جوليانو مير خميس) في الرواية كان من صنع الخيال مع استخدامه بعض المعلومات عن المذكور استقاها من مصادر مختلفة من ضمنها فيلم (أطفال آرنا) وهو من أعمال جوليانو وتناول قصة أمه الناشطة اليسارية (آرنا) وهي يهودية علمانية متزوجة من فلسطيني مسيحي من الداخل عرفت بنشاطها المناوئ لما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي، وبنت مع العديد من أهالي المخيم علاقات طيبة، وتوفيت لاحقا بالسرطان (تطرقت الرواية إلى ذلك).

 

الإهداء وتجاهل الحقيقة!
إعلان

الإهداء الذي صدّره أنور حامد هو لذكرى (جوليانو مير خميس) والأخير كان له نشاط(الإشراف على مسرح الحرية) في مخيم جنين بدأه بعيد الاجتياح في 2002 واستمر حتى قتل برصاص مسلحين مجهولين في المخيم في نيسان 2011 أي بعد تسعة أعوام من الاجتياح الكبير، وهو الاسم المعروف شعبيا لعملية(السور الواقي) التي شنها شارون على الضفة الغربية وكان من أبرز محطاتها مهاجمة وحصار مقر الرئيس عرفات، ومعركة مخيم جنين، وأكتب هذه السطور في ذكرى المعركة للتنويه.

 

ولكن مع أن الإهداء موجه إلى (جوليانو) والرواية منحته دورا أراه –بعكس بعض الناقدين-محوريا في أحداثها، ولكن تم تجاهل حقيقة تناولها لفيلم (أطفال/أولاد آرنا) الذي أشار إليه الكاتب في التنويه، ولم يتطرق في أي جزء من الرواية لهذه الحقيقة المهمة؛ وهي أن الأولاد الذين يتحدث عنهم لما كبروا انخرطوا في المقاومة المسلحة ومنهم الاستشهادي والشهيد والأسير، وهذا شيء معروف كان حريّا بالكاتب ألا يتجاهله وأن يأتي عليه ولو سريعا، ولكنه لم يفعل ولا أدري ما السبب؟

 

محاكمة النص الروائي أمام الواقع

الروائي الأستاذ (أنور حامد) اختار عنوانا صريحا يشي تلقائيا بمحتوى الرواية أو فكرتها أو طبيعة موضوعها (جنين 2002) والعنوان وحده كاف لعدم سلخ النص الروائي عن الواقع والموضوع والحقائق، ولذا إضافة إلى ما ذكرته من حقيقة كوني شاهد عيان ولدي ما أقوله؛ فإن تناول الحدث ولو بقالب أدبي ورواية تظل عملا خياليا، وإهدائها لذكرى شخص حقيقي بل وتخصيص صفحات مهمة ودور مركزي له (جوليانو) يجعل من فكرة التعامل مع الرواية بمعزل أو بتغافل متعمد عن الواقع أمرا غير ذي صلة بتاتا، لذا أنا مضطر، بل أرى من الموضوعية التامة إخضاع أحداث الرواية إلى الواقع في أكثر من نقطة.

 

نص سردي بحت

لا أنكر أنني لما ذكرته في البداية عن صاحبي الذي حثّني على قراءة الرواية، ومعرفتي بذائقته وملكاته اللغوية، فوجئت إلى حد ما؛ فالرواية هي نص سردي تماما، يخلو من المعالجات الفنية، والتعبيرات الأدبية العميقة، ولعل هذا ديدن الروايات في الألفية الحالية، أو هكذا يبدو لي، أي سرد الأحداث على لسان شخوص الرواية أو الروائي دون نمنمة فنية وكأننا أمام نشرة إخبارية أو سيرة ذاتية، ولا مشكلة عموما في ذلك، خاصة أن السرد كان شيقا لطيفا، مع أنه أفرط في استخدام اللهجة المحكية.

   undefined

  

والرواية تبدأ بنص على لسان شخصية محورية في الرواية سنعرف لاحقا أنها (أريج الشايب) وهي فتاة عمرها 17 عاما في التوجيهي/الثانوية العامة من سكان مخيم جنين، وهنا نجد (أنور حامد) قد تعامل بحذر مع اختيار الاسم، ولا أظن الأمر محض صدفة؛ فأريج هو اسم عادي، قد تجد أي بنت من أية عائلة في مخيم جنين تحمله، ولكن لا يوجد بين عوائل المخيم عائلة تحمل اسم (الشايب)، وأم البنت من عائلة (أبو الهيجا) والتي تعود جذورها إلى قرية (عين حوض) المحتلة سنة 1948 قرب حيفا، وهذه عائلة كبيرة، ولعلها الأكبر بين عائلات مخيم جنين، وبالتالي نجح الروائي في اختيار الاسم بدرجة كبيرة، من وجهة نظري.

إعلان

 

تجاهل حقائق ميدانية وتاريخية

وسيرد أن أم أريج والتي أكبر أولادها في العشرين، كانت فتاة صغيرة تتذكر عين حوض قبل النكبة الأولى، وبحسبة بسيطة يتبين أن هذا مخالف للواقع، فكم كان عمرها حين تزوجت إذن، وهي الزوجة الأولى والوحيدة؟ وأيضا يتحدث الكاتب عن اقتحامات لقوات الاحتلال لمخيم جنين قبل انتفاضة الأقصى، واستدعاء المخابرات الإسرائيلية للشاب (عارف) الذي ربطته بأريج قصة حب؛ ولكن هذا مجاف للواقع، فمخيم جنين أصبح ضمن المناطق المصنفة (أ) وفق اتفاق أوسلو منذ خريف 1995 وبالتالي لم يعرف الاقتحامات والدخول الفعلي لقوات الاحتلال منذ ذلك الحين حتى 2002 وهي سنوات كافية ليكبر فيها جيل كامل، ولكي نستنتج أن أريج وعارف كانا أطفالا صغارا قبلها، حتى أول صفحة من النص تذكر أنها كانت طفلة في التاسعة، فكيف اختلطت الأمور على الكاتب؟! وعلى ذكر المقاومة في مخيم جنين فإن (أنور حامد) تحدث بالعموم عن الفصائل ولكنه لم يذكر إلا اسم (حركة فتح) وحقيقة ما ميّز مخيم جنين ومعركته البطولية هو أن وحدة ميدانية حقيقية كانت بين كل فصائله، خاصة فتح وحماس والجهاد الإسلامي، وكان يجدر بالكاتب ذكر أسماء الفصائل الأخرى ولو حشوا.

 

كراسة أريج وعارف المختلف ومربى المشمش

بالطبع لم يغب عن بالي أن الرواية تريد أن تقول بأن مخيم جنين أهله يعيشون حياتهم وفق ما هو متاح؛ يأكلون ويشربون ويحبون ويتزوجون ويطربون ويمارسون الفنون وفق الإمكانيات المتاحة رغم قلتها، ويلعب أطفالهم ويمرحون رغم حالة الفقر والضيق، ويسعون في طلب الرزق والحصول على التعليم، وتحتفل فتياته بأعياد ميلادهن، وغير ذلك، مما جاء في كراسة يوميات خطتها أريج حتى استشهدت، ولكن بصراحة الكراسة واليوميات بحد ذاتها تمثل إشكالية؛ فأبناء وبنات المخيمات، وخاصة مخيم جنين، مباشرون في طرح أفكارهم، حتى وهم يدوّنون يومياتهم-من يفعل ذلك منهم أقصد- ولا يخوضون كثيرا في أسئلة عقدية وجودية وفلسفات عميقة، وخاصة من هنّ في سن أريج، وظروفها العائلية والاجتماعية.

إعلان

 

صحيح أن الرواية نص سردي بحت، خلا من العبارات الفخمة، ولكن الأفكار التي جاءت في كراسة أريج عن السياسة والدين والمجتمع والمخيم والاحتلال، لا تتناسب مع سنيّ عمرها، أو نسبة ذكائها، وحتى وإن كانت اليوميات شيئا يفرغ فيه المرء أموره الحميمة فإنه لن يغيب عن فتاة مراهقة أن تقوم بالترميز أو الإيحاء، أو حتى التكتم وهي تخط الكلمات عن هذه الأشياء؛ ناهيك عن (السوريالية) المفرطة فيها؛ فهي حتى وجدّتها قد استشهدت والمخيم تحت القصف العنيف، تذهب لتمارس لذتها مع نفسها، لأول مرة، ثم تبكي ندما، وتمضي في شرح أراه مستفيضا، عن دخولها في الدورة الشهرية، وما يتبع ذلك.

 

وبخصوص (عارف) حبيبها فإنها وصفته بـ(المختلف) ولذا هو غير مستوعب في المخيم، لأن لديه أفكارا غير عنيفة حول الاحتلال والصراع برمته، ولذا تعرض لمضايقة واتهامات من شباب المخيم، واستدعي من قبل مخابرات الاحتلال؛ ولو أن الروائي تعمق أكثر لعرف أن من ميزات مخيم جنين أنه متسامح جدا، وقد شهدت بعيني حوارات من(مختلفين) مع رجال المقاومة من بينهم أبرز المطلوبين الذين استشهدوا أو اعتقلوا، وكان (المختلف) يتحدث بصراحة وجرأة تامة معهم ويعبر عن رفضه لسلوكهم ونهجهم، خاصة من زاوية عدم تكافؤ ميزان القوى بينهم وبين جيش الاحتلال، وبمنطق الخوف على البيوت والأطفال، بل بعض الأهالي رفضوا أن تزرع عبوات ناسفة في الشارع أو الزقاق الذي يقيمون فيه، واستجابوا لهم ولم يضايقوهم، بل بالعكس. ولكن ما لا يتسامح فيه مخيم جنين هو كسر الصيغة المحافظة وسمت الحرص على الأخلاق؛ ولذا فإن ذهاب (أريج) وحدها إلى بيت (عارف) في غياب أمه والجلوس معه والتحدث إليه وصولا إلى ما هو أعمق وأخطر، مستهجن في أعراف المخيم. 

   undefined

  

بالطبع الروائي يريد نوعا من المحاكاة مع (آنا فرانك) التي مارست علاقة مع أحدهم أثناء اختبائها من النازيين، طبعا أريج في الرواية لم تصل مع عارف إلى تلك المرحلة، ولكن هذا أمر شاذ في المخيم، وليس مألوفا، فيفترض أن (عارف) شاب منبوذ بسبب أفكاره، ولذا سيكون تحت المراقبة، فكيف ستأخذ فتاة مراهقة راحتها في التردد على بيته، والمخيم مجتمع يعيش أهله في مساحة ضيقة وكل حركة وكل شيء فيه خاضع تماما إلى رقابة و(فضول) المجتمع؟ أما مربى المشمش الذي سيأخذ حظا وافرا من النص، لدرجة أنه سيصبح المربى المفضل عند الجندي (ديفيد) بعد مشاركته في اقتحام المخيم وعثوره على بعضه وتذوقه؛ فيمكنني أن أزعم هذا النوع من المربى ليس له هذه الشعبية الكبيرة في مخيم جنين، ليس لأنه ليس لذيذا، بل لأن هناك أنوعا أخرى من مربيات الفاكهة، ربما لأنها أقل كلفة، فالمشمش سعره مرتفع خاصة عند أهالي المخيم الذين ليس لهم مزارع وبساتين.

إعلان

 

ثم أننا حتى متى سنظل أو سيظل بعضنا ومنهم الأستاذ أنور، حتى في أعمالنا الروائية، نحاول إثبات أننا بشر كبقية البشر، وكأننا نتوسل اعتراف الآخرين، وخاصة الأعداء المحتلين بإنسانيتنا؟ إن الغرق في هذه المحاولات أمر مثير للاستفزاز فعلا.. حتى ولو كان الهدف هو القول عندنا (آنا فرانك) فلسطينية، فهذا شيء يشهد عليه كل بيت فلسطيني في جنين ونابلس وغزة والخليل وغيرها.. هذه أزمة ترهق وتستنزف فكرنا الوطني، ونحن نظن أنها تخدمه وتقوّيه!

 

هل ثمة أيديولوجيا يضمرها النص؟

توظيف الأدب لخدمة الأيديولوجيا، ليس جديدا، وهو ليس منبوذا، بل على العكس، ولكن ما هي هذه الأيديولوجيا فيما وراء النص؟ هل يريد الكاتب أن يقول بأن هناك صراعا دمويا، لا يخلو من العبثية والجنون بسبب التعبئة العدائية والتحريض (المتبادل)، وهذا يلامس وضع الضحية و الجلاد في مربع المساواة، مع أنه حمّل تلك التعبئة إلى الجانب الإسرائيلي؛ بتسليط الضوء على الجندي الشاب (ديفيد) وما يضخ في وعيه من أفكار وافتراءات تتعلق بـ(الآخر العربي) في البيت ومع الأصدقاء وبالطبع أثناء خدمته العسكرية، وما قام به الجيش الإسرائيلي من قتل وتدمير في مخيم جنين، ثم أن الجندي-ويبدو لي هذا محال- يعتبر أريج (آنا فرانك) الفلسطينية وهي يهودية ألمانية نجت من الهولوكوست ودونت مذكراتها أثناء فرارها من النازيين؛ فهم جميعا يعتبرون ألا شيء أكثر مأساوية وقبحا من الهولوكوست منذ الأزل وحتى قيام الساعة، وفرضوا هذه القناعة على الغرب، ويسعون أن يفرضوها علينا!

 

ولكن في المقابل لا تتوارى الفكرة بما كان يدور من أفكار في رأس (عارف) وصولا إلى (أريج) كما سطرت في كراستها.. أي أنه يمكن من خلال (عقلاء) من الطرفين بناء جسور من التفاهم والسلام بين (شعبين) يعيشان على نفس الأرض.. طبعا هي فكرة مرفوضة وثبت فشلها عبر عشرات السنين وما تخللته من محاولات باءت بفشل ذريع، وهي تنم عن قصور في فهم طبيعة المجتمع اليهودي الصهيوني، والدور الوظيفي للكيان العبري، وطريقة التخلص منه، ما دفعني إلى هذا الظن هو أن الرواية مهداة إلى ذكرى جوليانو ومحورية المذكور في النص أيضا؛ وحقيقة لم أر (جوليانو) إلا مرات قليلة من بعيد ولم أكلمه أو أتعامل معه؛ ولكن أمه (آرنا مير) عرفتها وزارت بيتنا في المخيم عدة مرات إبان الانتفاضة الأولى لأن لي شقيقة أصيب بطلقة مطاطية كادت تودي بإحدى كليتيها في صيف 1988 وأتذكر أن (آرنا) قالت بعربيتها الثقيلة والمفهومة طبعا، عن حركة (السلام الآن) التي -وأنا الفتى الصغير- حسبتها منها: كله كذب.. وعندما تحدثت عن الفرق بين العمل والليكود؛ حيث كان الأول يظهر أنه من (معسكر السلام الإسرائيلي) قالت بضجر: كلهم زي بعض فش فرق!

إعلان

 

فهل أراد جوليانو الذي أنتج فيلما عن أمه ومن ساعدتهم من الأطفال، مواصلة عمل أمه ولكن ضمن فكر جديد؟ أي ألا يكتفي بمساعدتهم وتخفيف معاناتهم والترفيه عنهم فقط، مثلما كان دأب أمه، بل استخدام هذا النشاط كقنطرة لطرح فكرة التعايش، والتخلي عن (العنف) لتحقيق الأهداف الوطنية، ولو بطريقة غير مباشرة؟ سؤال صعب والوحيد الذي يعرف إجابته هو جوليانو الذي ليس في عالم الأحياء (قتل برصاص مجهولين في المخيم في 2011).. ولكن هل لي أن أفترض أن (أنور حامد) رأى أن هذا هو هدف جوليانو، أو تمنى أن يكون كذلك، وأيّد هذا التوجه ضمنا وصبّه في فكرة النص؟

    undefined

    

أحداث الرواية

حسنا دعونا نستعرض الرواية بطريقة مسحية عامة، دون التزام حرفي بظهور الأحداث والتطورات كما وردت في الرواية بالضرورة؛ فالرواية تبدأ بمقتطفات من كراسة يوميات أريج دون توضيح ذلك؛ وكيف أنها اكتشفت ضعف أبيها أمام ضابط جيش الاحتلال مع جنوده المدججين بالسلاح، وهي التي كانت -بعقل طفلة- تظن أن هذا الأب هو أقوى رجل في العالم.. والد أريج يعمل سائق سيارة أجرة يخرج مبكرا من البيت ويعود متأخرا، وأمها ربة بيت، وقد سافر الأب والأم  إلى الأردن وتركوا أريج في بيت جدتها، وبدأ الاجتياح الكبير لمخيم جنين واستشهدت الجدة وبدأ جسدها يتعفن وتفوح رائحته، وهي في وضع صعب وقلق وتوتر، وبقيت أريج وحدها تكتب يومياتها في الكراسة، وشقيقها مع المقاومين؛ ولاحقا سيستشهد شقيقها بعد عودته إلى البيت وستلحق به والكراسة الملطخة بالدم في يدها، حيث سيعثر عليها الجندي (ديفيد أشكنازي) ويطلب من صديقته (ليلى) وهي من أب فلسطيني وأم يهودية بولندية ترجمتها إلى العبرية، ويحاول بعد ذلك نشرها، وتحدث عنده نوعا من الصدمة.

 

يعيش (ديفيد) في مدينة يافا المحتلة، في بيت قديم طرد منه سكانه العرب، ويبدأ بطرح الأسئلة على والديه، ويلاحظ ديفيد أن المخبز الذي يشترون منه هو مخبز عربي (أبو العافية) وجزارهم المفضل عربي ويشتري الأيسكريم من محل (فيكتوري) وهو عربي ولكن مع ذلك كأن العرب ليسوا موجودين ولا علاقة طبيعية معهم، يستدعى ديفيد إلى الخدمة العسكرية، ويشارك في عملية اعتقال في منطقة طولكرم، ثم يشارك في اقتحام مخيم جنين الذي شهد معركة حامية الوطيس، وأثناء تمشيط البيوت، يجد الفتاة (أريج) وبيدها الكراسة التي حين يقرأ ترجمتها ستتغير نظرته إلى نفسه ومجتمعه والعرب والصراع وأشياء أخرى، كما يجد صورة لامرأة مع أطفال في أحد البيوت وهو مسرح أنشأته (آرنا) التي تظهر في الصورة، كما سيعرف لاحقا.

إعلان

 

يعود من الخدمة بنفسية مختلفة، ويقطع علاقته بصديقته (شوشانا) ويلتقي بعد جهد مع (جوليانو) في الناصرة، ويطلب منه مساعدته لكونه يعيش أزمة نفسية، لأنه شارك في تدمير (حيوات) كاملة وليس كما صوّروا له أنه مخيم للإرهابيين، وبعد مدة يوافق جوليانو ويصطحبه معه إلى مخيم جنين بصفته صديقا، وديفيد يعرف الحديث بالفلسطينية الدارجة، فيستضيفه بعض أهل المخيم في أحد البيوت ويعاملونه بود، ولكنه يقرر التخلي عن حماسه الذي أبداه أمام جوليانو للمشاركة في إعادة بناء المسرح (مسرح الحرية) ويقرر العودة إلى يافا ليس بعقليتهم هناك ولكن ليس بعقلية جوليانو أيضا (بين بين) ولكن والده يطرده من البيت وكان قد توعده بأنه لن يكون مرحبا به في البيت في حال أصر على الذهاب إلى جنين، ويحاول الاتصال بصديقته التي نبذها (شوشانا) وترفضه هي أيضا، فيذهب ويشرب الخمر ثم يذهب إلى السباحة فيغرق في البحر، وتتسلم (ليلى) متعلقاته وتقرر نشرها، فبينها أوراقه التي هي مادة الرواية في جزئها الذي يتحدث فيه ديفيد عن حياته وانفعالاته وعلاقاته وهواجسه وخيباته.

 

مخيم جنين مادة خصبة

منذ 2002 وحتى الآن ولاحقا سيظل مخيم جنين مادة خصبة تنتج عنها الأفلام والمسلسلات الدرامية والوثائقية وتكتب عنها الكتب والروايات، وأطروحات الماجستير وغير ذلك، وهذا يدل على أهيمة المكان باعتباره يجسد جزء من النكبة الكبرى وتبعاتها أولا، وثانيا لأنه شهد ملحمة بطولية تصدى فيها عشرات المقاومين لأعتى قوة عسكرية في المنطقة، وبقيادة كبار قادة الاحتلال، حتى أن شارون بنفسه حضر إلى معسكر سالم غرب جنين، وكان شاؤول موفاز رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال يشرف على العمليات من مروحية في الجو.

 

ورواية أنور حامد تضاف إلى تلك الأعمال، وحسبه أن اختار العنوان وعموم المحتوى عن تلك المعركة البطولية، حتى وهو يلتزم بصرامة حيادية أرفضها، وفيها مادة يمكن أن تعرف القارئ العربي على طبيعة الحياة الفلسطينية، ولكن من جوانب محددة، تعطي لمحة عامة، وتمنح الأجيال الفلسطينية قراءة روائية للأحداث، تحفزهم على البحث -كما أفترض وأرجو- والتقصي والتفاعل والاعتراض والتعديل والتصحيح.. وحتى الآن فإننا وجدنا أريج الشهيدة في كل بقعة فلسطينية، ولكننا لم نجد ديفيد الذي استيقظ ضميره عندهم! أما إذا كانت الرواية تخاطب الجمهور الصهيوني أو الغربي، فليس لدي ما أقوله والكاتب الذي عاش في الغرب أعرف مني بهم، ولكن الصهاينة يفترض أننا نتساوى بمعرفتهم من نكبتنا ودمنا ومأساتنا التي صنعوها وما زالوا، وللأسف غاب هذا البعد عن الرواية.

إعلان

 

ولا أنسى في هذه المناسبة (معركة نيسان/أبريل 2002 في مخيم جنين) الترحم على جميع شهداء فلسطين عامة ومخيم جنين خاصة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان