شعار قسم مدونات

هل سيشهد النظام الدولي تحولا بعد انحصار كورونا؟

blogs ترامب

بات السؤال الذي يشغل بال العدّيد من الكتاب والباحثين وعلماء العلاقات الدولية في الوقت الراهن، هل يشهد العالم تحولًا في بنية النظام الدولي بعد انتهاء جائحة كورونا، خاصة في ظل السلوك المضطرب التي ظهرت عليه الولايات المتحدة الأمريكية تحت قيادة الرئيس الحالي دونالد ترامب؟ الواضح أن جائحة فيروس كورونا المستجد بدأت تؤثر على التوازنات الإقليمية والدولية، وتحفز التساؤلات التي تطال واقع ومستقبل النظام الدولي. مع بروز مؤشرات على تراجع مكانة الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية في ظل عدًيد السياسات التي اتخذتها إدارة ترامب قبل وخلال أزمة كورونا.

الكاتب البريطاني "دانيال فينكلشتاين"، تساءل: هل سنشهد نهاية الحقبة الأمريكية؟ معتبرًا أن أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد، كشفت إلى أي مدى تراجع دور أمريكا القيادي في العالم. وكتب في مقال نشرته صحيفة "التايمز" البريطانية تحت عنوان "هل نشهد نهاية الحقبة الأمريكية؟ "مجدداً تثبت الولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب أنها ليست أهلاً لقيادة العالم. إن تعاطي الرئيس ترامب مع الخطر الذي يواجه العالم هذه الأيام جرّاء انتشار فيروس كورونا المستجد يثبت للعالم وللأمريكيين أن هذا الرئيس ليس أهلاً لقيادة الولايات المتحدة التي تصنف على أنها القطب الأوحد في النظام الدولي".

العدّيد من الكتاب والباحثين العرب والأجانب يرون: أنّ العالم ما بعد كورونا سيشهد العديد من التغيرات وبالفعل سيتشكل نظام جديد يعرف بالنظام الدولي الإنساني الذي كان غائبا وليس نظامًا دوليًا ذات قطب واحد، حيث أن الصين ومجموعة شرق آسيا ستحتل مكانة كبيرة في النظام الدولي على حساب أمريكا والاتحاد الأوروبي. صحيفة "الفاينانشال" تايمز البريطانية نشرت مقالًا كتبه، "غيديون راكمان"، تناول فيه كيفية تعامل الصين مع انتشار فيروس كورونا، وكيف أنها تسعى لاستغلال النجاح الذي حققته في محاصرة الفيروس لتسجل انتصارًا سياسيًا وإعلاميًا على الولايات المتحدة وأوروبا. ويضيف "غيديون" أن الصين عرضت مساعدتها على العالم من أجل مواجهة الفيروس، بينما اكتفت الولايات المتحدة بتوزيع الاهتامات!

الاعتقاد بتراجع أمريكا كقوة عظمى يعتمد على انطباعات وتحليلات غير متماسكة، تتحدث أغلبها عن التحول بين وضع أمريكا الحالي، والوضع الذي اعتادت أن تكون عليه في الماضي

أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد، "ستيفان م. والت"، أشار لمجلة (فورن بولسي) إلى أن العالم سيشهد تسارعًا في انتقال مركز القوة والنفوذ من الغرب، إلى دول آسيوية، وخاصة الصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية، بسبب قدرتها على السيطرة على المرض (بطرقها المختلفة)، ما قد يحسن من صورتها مقابل صورة الدولة الأوروبية، والولايات المتحدة، التي اتسمت استجاباتها لكوفيد-19 بالعشوائية والبلبلة والضعف.

التساؤل المهمّ هنا: هل يشهد العالم فعلًا تحوّلًا في بنية النظام الدولي، عبر صعود الصين لهرم النظام العالمي؟ هذا التساؤل يصعب الإجابة عليه في الوقت الراهن؛ كون أنّ مفهوم تحول القوة (Power Transition) الذي يشير إلى فقدان الدولة المهيمنة موقعها القيادي لمصلحة قادم جديد سريع التنامي، الأمر الذي يجعل من الأخير كأنه ظل لهذه الدولة المهيمنة. ولكي يحدث تحول للقوة، يتعين على القادم الجديد أن يحصل على مصادر للقوة أكبر مما لدى الدولة المهيمنة، أو على الأقل يحدث تعادلًا مع المقدرات القومية للدولة القائد، بالشكل الذي يجعل من المقدرات القومية لكل منهما تقترب من حد التساوي. وهنا يتبادر التساؤل: هل تمتلك الصين حقًا القدرة الحقيقية على مزاحمة الولايات المتحدة المكانة الدولية بشكل حقيقي؟

يشير أليسون غراهام في كتابه حتمية الحرب بين القوة الصاعدة والقوة المهيمنة: أنّ نصيب الصين من الاقتصاد العالمي ازداد بسرعة من 2 في المية عام 1980 إلى 18 في المية عام 2016، وهو في طريقه لكي يصل إلى 30 في المية من الاقتصاد العالمي في العام 2040. النمو الاقتصادي السريع في طريقة ليحوّل الصين لقوة عظمى ومنافس سياسي واقتصادي مخيف للولايات المتحدة الأمريكية. بناء على هذه المقاربة قد تجد الصين والولايات المتحدة نفسهما طرفين في حرب غير مُرجّحة الحدوث، فضلًا عن كونها غير حكيمة، فمعظم حالات التنافس التي تشبه نسق التنافس الحالي بين الولايات المتحدة والصين انتهت بالمواجهة.

في المقابل يؤكد "جوزيف ناي" في كتابه "نهاية القرن الأمريكي" أنّ الناتج القومي وحدةّ ليس المعيار على قوة الدولة على الساحة الدولية، كون أنّ الدولة مهما امتلكت من موارد القوة الرئيسية تكون فقيرة في قدرتها على تحويل القوة الاقتصادية إلى قوة سياسية على المسرح الدولي. مثل ما حدث مع الولايات المتحدة الأميركية في ثلاثينات القرن العشرين، عندما امتلكت قدرات اقتصادية هائلة بينما اتبعت سياسة العزلة، لهذا فإن الصين حتى لو تخطت الولايات المتحدة الأميركية في الناتج الاقتصادي الإجمالي؛ فلن نشهد نهاية القرن الأمريكي آلياً، إذا ما أخذنا بالحسبان الأبعاد الثلاثة: "الاقتصادية والعسكرية والقوة الناعمة".

"روبرت كاجان"، مؤرخ وزميل مركز بروكينجز وأحد أقطاب المحافظين الجدد، في كتابه المعنون بـ "العالم صُنع أمريكي The world America Made"" قدم ملخصًا لأهم أفكار كتابه حول مستقبل القوة الأميركية بمقال له تحت عنوان "لم تتلاش"، ضد خرافة التراجع الأميركي Not Fade Away: Against the Myth of American Decline" نشر في عدد يناير2012 من مجلة " نيو ريباليك The New Republic". يستهل كاجان مقاله بطرح تساؤلين رئيسيين، مفادهما: "هل تواجه أمريكا تراجعًا في مكانتها كقوة عظمى؟"، وهل يواجه الأميركيون خطرًا أن تمارس دولتهم الانتحار الاستباقى الذي تمارسه القوى العظمى قبل سقوطها؟". والمقال هو إجابة بالنفي على هذين التساؤلين.

رغم أهمية الأخذ في عين الاعتبار التراجع الكبير في مكانة الولايات المتحدة في عهد ترامب على الساحة بعد الخروج من العدّيد من الاتفاقيات والمنظمات الدولية، وتوقفه عن دعم منظمة الصحة العالمية في ظل الجائحة، إلا أنّ الاعتقاد بتراجع أمريكا كقوة عظمى يعتمد على انطباعات وتحليلات غير متماسكة، تتحدث أغلبها عن التحول بين وضع أمريكا الحالي، والوضع الذي اعتادت أن تكون عليه في الماضي. مشكلة هذا الاتجاه تكمن في أنه يعتمد على تحليل وضع القوة الأميركية في مدة زمنية معينة، ويرتكز على الأزمة العالمية التي تعصف بها في ظل حكم ترامب. هذا الرأي يغفل أيضًا إعمال المنظور التاريخي ومعايير القوى العظمى التي يمكن الاتفاق عليها، سنجد أن "تدهور القوى العظمى هو نتيجة تغيرات جذرية في التوزيع العالمي لأشكال القوة، والذي عادة ما يأخذ فترات زمنية ممتدة ليتشكل، ونادرًا ما تسقط القوى العظمى فجأة.

من وجهة نظرنا التحوّل الحقيقي الذي أحدثه انتشار فيروس كورونا في النظام الدولي ليس فقط في بقاء الولايات المتحدة على رأس هرم النظام الدولي من عدمه، فهذه قضية من السابق لأوانه الحديث فيها، وهي تخضع لوجهات نظر أكثر من مجرد حقائق باعتبار أن الولايات المتحدة مازالت تمتلك العديد من مقومات القوة المجردة. القضية الحقيقة التي أحدثها الفيروس في العالم، هي تغير الدول أولوياتها بعد التركيز خلال العقود الماضية على القوة العسكرية والقوة الاقتصادية باعتبارها أولوية لدىها، وتجاهل القضايا الداخلية كالصحة والمعرفة والتعليم. لقد اعادت الجائحة التفكير في مفهوم القوة بشكله المجرد، بعد أن ضرب الوباء الاقتصاد والجيوش ولم تعد الدولة قادرة بكل مقدراتها على مواجهة التداعيات السلبية للفيروس على كافة المستويات الصحية والاقتصادية والاجتماعية.

الدول التي نجحت في مواجهة الفيروس ليست مصنفة على المستوى الدولي كدول كبرى على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية وإنما هي دول تمّتلك نظام صحي قوي، وقدرة على استخدام التكنولوجيا الحديثة في مواجهة الجائحة، الأمر الذي مّكنها من مواجهة تداعيات الجائحة الصحية والاقتصادية بكل مرونة. الجائحة اعادت التفكير بشكل خاص في السياسات النيوليبرالية التي أدت لبيع أصول الدولة والقطاع العام، وشكل الاقتصاد السياسي، ودور الدولة في الحفاظ على معدل مناسب من الإنتاج المحلي بعد ما كشفت الأزمة عمق الإشكاليات الناتجة عن الاعتماد الكلي على الاستيراد الكامل للأدوات والأجهزة الطبية والمواد الغذائية، بعد أن سيطرة الصين على أكثر من 80 في المية من إنتاج المواد الطبية على المستوى العالمي.

أزمة جائحة كورونا لم تثير فقط إشكالية التحول في بنية النظام الدولي؛ وإنما أثارت بشكل أعمق اشكالية دور الدولة والمجتمع في الحفاظ على معدل كافي من الإنتاج المحلي، وخاصة الأدوات والأجهزة الطبيةبعد ما ضربت جائحة كورونا القطاع الصّحي، ما يجعل الدول تعيد الاعتبار للانتاج المحلي حتى لو كان أكثر تكلفة والتخلي عن سياسة الاستراد في عصر سوف يشهد انتشار العدّيد من الفيروسات والأوبئة القاتلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.