شعار قسم مدونات

هذا المقال ليس عن فايروس كورونا

blogs رواية الديوان الاسبرطي

من حقك الظن أنني أستخدم اللعبة أو التكتيك المعهود بحيث أسحبك إلى قراءة هذه السطور مثلما يكون وسم بعض المقالات والأخبار (لا تقرأ هذا الخبر/المقال) أو من يضع عنوانا من قبيل (للرجال/للنساء فقط) فيجذب كلا الجنسين خاصة الجنس المغاير للعنوان.. وأن هذه السطور ستكون عن كورونا طبيا أو اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا، وبالتالي فإنه من كثرة العناوين وحالة الإشباع والملل اخترت هذا العنوان لسحبك إلى عكسه!

لا يا عزيزي أنت مخطئ؛ أعدك بأن يكون العنوان حقيقة لا تكتيكا جاذبا، ولكن لا أعدك بكسر الملل والإشباع عندك فهذا أمر يخصك وحدك، ولست أدري هل ستخرج لدقائق معدودة من (الجو) أم لا، ولست في معرض المفاضلة بين هذه السطور وبين ما يبدو في نظرك ونظر ملايين الناس أهم وأكثر جدارة بالمتابعة والنقاش والتحليل.

 

في ليبيا حققت قوات حكومة الوفاق برئاسة (فائز السراج) التي وقعت اتفاقا مع تركيا انتصارات واضحة على قوات (خليفة حفتر) المدعوم من دول وعواصم معروف بعضها ومجهول بعضها الآخر ولا ندري هل يزول كابوس هذا الطامع بوراثة القذافي أم يتأخر.. ولكن بالتأكيد فإن ليبيا بعون الله لن تعود إلى كابوس استمر أربعة عقود. ليبيا غنية بالنفط والغاز ولها شاطئ طويل على البحر الأبيض المتوسط، وموقعها استراتيجي ومساحتها كبيرة، وتنوعها البيئي مميز، وهي خليط تلاقح ثقافات مختلفة من عرب وبربر وأفارقة وغيرهم، وجدير بها أن تكون أنموذجا رائعا يحوي أفضل الجامعات وأرقى الخدمات الصحية، وأعلى معدلات الدخل للأفراد، ولكن للأسف فقد وقعت نهبا لرجل مصاب بجنون العظمة جعلها حقل تجارب لنزواته الغريبة.. والأغرب أن ثمة من يترحم على ذلك الرجل، ليس ترحم الحيّ على الميت، فذلك شأن مختلف، بل الترحم على حكمه الذي لا أدري تحت أي باب يصنّف في علوم السياسة والاجتماع؛ بدعوى أن البلاد كانت (موحدة) تحت حكمه وكانت الأوضاع مستقرة، غني عن القول أن الأنعام في حظائرها مستقرة أيضا؛ فالاستقرار نعمة ولكن ليس أي استقرار، وعلى كل حال فإن ما تعيشه ليبيا منذ عام 2011 هو نتيجة وليس سببا؛ إنها نتيجة هذا النوع من الحكم والحكام، ولو أن القذافي حكم بطريقة مختلفة لربما حتى نهايته كشخص كانت أفضل.

 

الرواية تتناول بداية الغزو الفرنسي للجزائر وأواخر فترتها (العثمانية) وهنا لا بد من الغوص في المجال السياسي قليلا؛ فالجزائر حاليا علاقتها بالجمهورية التركية جيدة، ويسجل للجزائر أنها لم تعبث وتغامر في مجال جارتها الشرقية

نسأل الله تعالى أن تنعم ليبيا بنظام حكم رشيد يكون فيه خادما حقيقيا لأهلها، لا سيدا يريدهم عبيدا، ومن يدري لربما تستقر الأوضاع استقرارا يريده الناس الأحرار، لا استقرار المزارع والحظائر الذي يتباكى عليه بعضهم، وتصبح ليبيا مقصدا لطالبي العلم والعمل وحتى السياحة والترفيه عن النفس، فلا شيء ينقص هذه البقعة الشاسعة سوى طبقة حاكمة مؤهلة يرضى عنها الشعب دون إكراه ولا ترهيب، وأمر آخر أهم وهو كلمة السر: أن يتركها أعداء الحرية وشأنها ولا يرسلون جنودهم وسلاحهم للعبث فيها؛ فليبيا تستحق أن يقصدها نطاسيو الطب وطالبو العلم والساعون وراء الرزق من عمال وتجار وغيرهم، لا أن يأتي (صاحب الكتاب الأخضر) بأوباش أفريقيا لقتل أبنائها واغتصاب بناتها، ثم يأتي جنود من يفترض أنهم أشقاء وإخوة لتدمير مدنها وقتل شعبها لتنصيب (جنرال) جديد يحكمها لصالح كل شيء ما خلا الخير لأهلها الطيبين.

 

ولنبق في المغرب العربي فإلى الغرب من ليبيا تقع الجزائر وهي كذلك بقعة حباها الله -سبحانه وتعالى- بطاقات كبيرة وفعّالة بشرية وطبيعية، ولكن لن أتناول شأنها السياسي، بل الأدبي، فقد عرف العرب منها روائي هو (الطاهر وطّار) وروائية هي (أحلام مستغانمي) لن أقول (فقط) ولكن كلاهما هما الأكثر شهرة، أقله لدينا نحن (المشارقة) من أدباء ذلك البلد. ولكن بالأمس القريب ظهر اسم جديد هو (عبد الوهاب عيساوي) وهو شاب عمره (35 عاما) ومهندس من منطقة الجلفة -حاسي بحبح، فاز بالمركز الأول للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في دورتها الثالثة عشر، وذلك عن روايته (الديوان الإسبرطي).

 

وأحيانا أقوم بقراءة عروض الروايات وبعض ما كتب عنها، ومتابعة تقارير متلفزة حولها أو لقاءات مع كاتبيها، قبل أن أبدأ بقراءة النص الروائي ذاته، وهي طريقة أشجعكم عليها بالمناسبة. على كل حال مثل هذه الجوائز لا تخلو من (هوى) وثمة معايير واعتبارات مختلفة تحكم القائمين على منح الجائزة سواء أكانوا مهنيين أو ممولين أو أي طرف له علاقة بتحديد هوية الفائزين؛ ولا أقصد بذلك الحكم بنقص في جودة وتميّز النصوص الروائية التي تتصدر قائمة البوكر الطويلة أو القصيرة، ناهيك عن الرقم (واحد).

 

الرواية تتناول بداية الغزو الفرنسي للجزائر وأواخر فترتها (العثمانية) وهنا لا بد من الغوص في المجال السياسي قليلا؛ فالجزائر حاليا علاقتها بالجمهورية التركية جيدة، ويسجل للجزائر أنها لم تعبث وتغامر في مجال جارتها الشرقية أي ليبيا مثل غيرها من (الجارات)، فهل كان إبراز رواية لكاتب جزائري ضمن الصرعة التي تجتاح قطاعات عربية فنية وصحافية وأدبية بطبيعة الحال، والتي تعنى بمهاجمة شرسة تستهدف كل ما كان في تاريخ الحكم العثماني للبلاد العربية، بما في ذلك العهد الذهبي للسلطنة، وبالتالي (ضم) الجزائر عنوة إلى هذه الصرعة الطائشة من بوابة الأدب ما دام باب السياسة والأمن موصدا حتى الآن؟ علما بأن الجزائر العثمانية كانت تحت لواء السلطنة، وفي الفترة التي تتناولها الرواية (1815-1833م) كانت تحت حكم (الدايات) ولها نوع من الاستقلال الذاتي، كما أن الجزائر العثمانية كان لها دور مشرّف في التصدي لأطماع الغزاة الذين طردوا المسلمين من الأندلس، وقد دخلت الجزائر تحت لواء العثمانيين بطريقة طوعية وكان من أبرز من حكمها خير الدين بربروس والذي له ولشقيقه (عروج) أياد بيضاء في التصدي للغزاة وإنقاذ من أمكن إنقاذه من (الموريسكيين) المضطهدين، بالتحالف ثم الانضواء تحت راية السلطنة.

 

هذا -القول بأن هدف الرواية تشويه صورة العثمانيين- حكم قد يبدو متسرعا لشخص مثل العبد الفقير لم يقرأ الرواية بعد…وأرجو ألا يكون هذا التوقع في محله (مع أن ما نشر خاصة في الإعلام المصري يؤكد ذلك).. وعيساوي هو أول جزائري يفوز بالمركز الأول. على كل الروائي عيساوي في لقاءات معه أوضح أنه يريد إعادة صياغة نفس الأسئلة التي يتمحور حولها الجزائريون منذ تلك الحقبة الحرجة في تاريخ بلده، ويبدو بأنه قد أعطى وصفا لبشاعة الاحتلال الفرنسي للجزائر حين تحدث في الرواية عن جريمة حقيقية ارتكبها الفرنسيون وهي أخذ عظام الموتى الجزائريين إلى مرسيليا وطحنها وخلطها بالسكر كي يزداد بياضا، وذلك في الصفحات الأولى للرواية:-

 

 

وبهذا يكون المرء مطمئنا إلى أن الرواية والكاتب ليسا من تيار (التفرنس) البغيض، ولطالما فكرت بطبيعة الغزاة في العصر الحديث؛ فوجدت الإنجليز يمتازون بلؤم وخبث وخطط سرطانية تبقى بعد رحيلهم زمنا طويلا، وغزوهم لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يتعداه إلى بعد ثقافي وسياسي واجتماعي لا يزول بسهولة، وهم يستخدمون القتل والتدمير؛ ولكن هو خيار يستغنون عنه إذا وجد ثمة بديل، ولكن (الفرنساوي) يقتل ويدمر بسبب أو بدون سبب وله شهية غريبة لسفك الدماء في كل العصور وحقب الحكم في باريس.. وطبعا فإن كل الغزاة شرّ لا خير في أي منهم.

 

عيساوي مهندس، ولعلنا نلحظ أن كثيرا من الأشخاص المهتمين بالأدب والتاريخ والعلوم الشرعية وعلوم السياسة والاجتماع هم من الذين كانوا في الفرع العلمي في المدرسة ودرسوا في الجامعات علوما تطبيقية مختلفة؛ ذلك أن رغبة المرء في تحصيل دخل معقول، يغلب على رغباته وما يعشق أحيانا، أو قد لا يكتشف ما يميل إليه فعلا ولا يمكنه تحديده سوى بعد التخرج والعمل. ربما يستطيع عبد الوهاب عيساوي الآن التفرغ والعمل في هذا المجال، ليس لأن قيمة (البوكر) المالية (50 ألف دولار) ستغنيه عن عمل آخر، ولكن سيكون الباب أمامه مفتوحا للتعاقد مع دور نشر ومترجمين ومؤسسات تلفزيونية وسينمائية من مختلف الدول.

 

ولكن (صنعة/صناعة الكتابة) بكافة أنواعها في بلادنا العربية عموما لا تطعم خبزا كما يقال؛ ولو أن أي كاتب ممن لم يظفر بالجوائز والشهرة الإقليمية والدولية، ولم يكن له مصدر دخل آخر، فسيكون من أهل الفقر والعوز حتما، وللأمر أسباب كثيرة، منها ما هو رسمي بامتياز، ومنها ما هو شعبي أو طبيعة اجتماعية، وقد قرأت قبل أيام نصا للكاتب اللبناني الراحل (مارون عبّود) يتحسر فيه على هذا الحال؛ هذا وقد عاش في زمن (توفي في 1962) كان فيه للمرقومات مكانة محترمة لدى الجمهور خاصة في لبنان؛ فكيف لو رأى حال الكاتب والكتاب والكتابة عموما في هذا الزمان؟

 

أراني قد التزمت وأوفيت بأن كانت سطوري أعلاه لا علاقة لها بكورونا، اللهم إلا من جانب واحد يتعلق بكيفية التصويت -هذا ما قد يخطر في البال- على جائزة البوكر في ظروف تقييد الحركة بسبب هذا الفايروس. لقد كانت رحلة من مشرقي عربي فلسطيني إلى مغربنا العربي الحبيب الذي أرى أننا لا نعطيه حقه من الاهتمام، ونجهل كثيرا عنه لظروف وأسباب، بعضها نابع من تقصيرنا، وبعضها لما هو خارج عن إرادتنا، ولكن يظل المغرب العربي عزيزا علينا ببطولاته وتضحياته في نصرة قضايا الأمة والذب عن حياضها، وفي أصالته وعلمائه وكتّابه وعموم ما فيه من مفاخر.. كنت أود أن تطول الرحلة خارج منطقة (كورونا) ولكن أرى بأنني أسهبت وأطلت.. لذا أستودعكم الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.