شعار قسم مدونات

إبراهيم أصلان الذي حول الفانتازيا الساخرة إلى حكمة ساحرة

blogs أبراهيم أصلان

للكتابة عن الأستاذ إبراهيم أصلان مذاق خاص، فقد قدر لنا أن نتزامل في الفوز بجائزة الدولة التقديرية عن نفس السنة ٢٠٠٣، وعلى الرغم من أننا تعودنا من الأقران وممن يضعهم القدر في موضع الأقران أن تكون شهادتهم في بعضهم مجروحة كما يقول العلماء القدامى، فإني أشهد، بما يحق لي أن أفخر به، من أن علاقتنا كانت صفاء في صفاء، ونقاء في نقاء، وحبا في حب، وإن كان في هذا فضل لأحد فإن كل الفضل فيه للأستاذ إبراهيم أصلان عليه رحمة الله.

 

كان الأستاذ إبراهيم أصلان إنسانا حكيما، وكان في الأصل أديبا موهوبا هاويا متمرسا تميز عن كل معاصريه بأنه حول الفانتازيا الساخرة إلى حكمة ساحرة، ولعله لهذا السبب الذي أحسه الجميع، حتى وإن لم يقرأوه موصوفا بهذا الوصف الجوادي، يعد من بين جيله من الأدباء والكتاب العصاميين العظاميين أحكمهم جميعا، وربما كان العكس صحيحا بالدرجة ذاتها، فقد أوتي الأستاذ إبراهيم أصلان الحكمة على مراحل متوالية إذ بدأ بالتأمل والتأمل المضاد، واجتاز مراحل كثيرة من التعقل والعقلانية، ووصل مبكرا عن غيره إلى الحكمة التي جعلته يرى الحياة بمنظور بعيد عن الصراع، وبعيد عن الإذعان، وبعيد عن الإخضاع، وإنما هو يراها تسير سيرها الحثيث الذي قدره الله لها، وللمخلوقات، وقد رأى الأستاذ إبراهيم أصلان في هذا السير سمة "التوازي" التي تسمح بالتعدد والاختلاف ولا تفرض الاتفاق، ولا تتطلب التفاوض، وإنما تترك العوالم تسير مع بعضها كأنها الأفلاك السماوية في مداراتها المتعددة، ولهذا كله فقد استطاع الأستاذ إبراهيم أصلان بفضل التأمل والحكمة أن يقدم أدبا مختلفا عن الشائع في جيله، من دون أن يضطر نفسه إلى تصنيع المواقف، بينما هو قادر على التقاطها، ومن دون أن يضطر نفسه إلى استنطاق الشخصيات بينما هو قادر على أن يجعلها تتحدث حتى من غير صوت ومن غير حوار، وذلك أنه أجاد تقديم شخصياته العبقرية على النحو الذي لا يمكن معه انتظار الاستكشاف بينما النص ناطق، وبينما البطل معبر، وبينما الحركة تقول ما لا تقوله الفكرة ومالا يمكن أن تقوله الفقرة.

 

بدأ الأستاذ إبراهيم أصلان الكتابة والنشر منذ عام 1965، وارتفع سهم قصصه القصيرة، وأعجب به الأستاذ يحي حقي فتبنى موهبته، وأتاح له من علمه الكثير

استطاع الأستاذ إبراهيم أصلان أن يقدم أعمالا قليلة العدد لكنها أصبحت بمثابة أيقونات مهمة لا لتصوير حالة كلية محددة أو متأطرة ولكن لتصوير عوالم موازية في حياة مضطربة بالمتناقضات. وبلغة العلم التطبيقي فقد نجح الأستاذ إبراهيم أصلان في أن يكون أول من يرتاد منطقة جديدة من مناطق القص هي منطقة الأشعة المقطعية المستقصية التي يعبر عنها المجتمع الطبي الآن بحروفها الأولى في مصطلح أوائلي النحت، حيث نقول السي تي سكان CTSCAN وبمثل هذه الاشعة المقطعية صور الأستاذ إبراهيم أصلان مجتمعه القصصي غير مكترث بالتصوير القديم الذي لا يزال يصور صورة واحدة من منظور واحد، ويجعل هذه الصورة مسئولة عن التعبير عن كل شيء، لكن الأستاذ إبراهيم أصلان نجح في أن يقدم تقنية جديدة، أو بالأحرى نجح في أن يوظف تقنية جديدة تصور مقاطع الحياة تصويراً متتابعا على نحو ذكي تتكون من تتابعه صورة ذكية لا تقل تعبيراً ولا فنا عن الصور القديمة التقليدية التي رسمها عباقرة المصورين سواء كان تصويرهم من قبيل تصوير دافنشي وبيكاسو ورامبرانت أو كان من قبيل تصوير فكتور هوجو وشكسبير ونجيب محفوظ.

 

وبهذا الأسلوب السهل والممتع والممتنع الذي اختطه الأستاذ إبراهيم أصلان بقريحته، واختصه بعنايته، وبذل فيه جهده قبل أن يمسك القلم ليكتب، استطاع هذا الأديب الأصيل أن يرتاد منطقة خصبة من مناطق التصوير الفني القادر على أن يتطور مع الزمن على يد خلفاء إبراهيم أصلان سواء وجدوا في الحضارة العربية أو في غيرها، وسواء لجأوا إلى فن القص أو إلى صورة أخرى جديدة من صور التعبير الأدبي التي لا شك في أن عالم الاتصال الاجتماعي سيطورها من حيث لا نعرف.

 

ولد الأستاذ إبراهيم محمد أصلان ١٩٣٥ في مدينة طنطا، وعمل لفترة طويلة من الزمن في هيئة البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، وفي 1987 انتدب للعمل نائباً لرئيس تحرير سلسلة مختارات فصول حتي عام 1995، كما عمل رئيسا لتحرير سلسلة «آفاق الكتابة» الصادرة عن هيئة قصور الثقافة (1997- 1999)، ثم عمل مسئولا عن القسم الثقافي في مكتب القاهرة لجريدة الحياة اللندنية منذ عام 1992، وحرر زاوية ثابتة بعنوان «أحوال» في الملحق الأسبوعي لجريدة الرياض منذ عام 1997، كما كتب زاوية أخري بجريدة الحياة بعنوان «من دفتر الأحوال».

 

بدأ الأستاذ إبراهيم أصلان الكتابة والنشر منذ عام 1965، وارتفع سهم قصصه القصيرة، وأعجب به الأستاذ يحي حقي فتبنى موهبته، وأتاح له من علمه الكثير، وفي عام 1969 أصدرت عنه مجلة جاليري 68 عددا خاصا تضمن نماذج من قصصه ودراسات حول هذه القصص، نشر الأستاذ إبراهيم أصلان من المجموعات القصصية: «بحيرة المساء» (1971)، و«يوسف والرداء» (1987)، و«وردية ليل» (1991).

 

ومن الروايات «مالك الحزين» (1983) التي قدمتها السينما تحت عنوان «الكيت كات»، و«عصافير الليل» (1999)، ومن التأملات: «حكايات من فضل الله عثمان» (2003)، و«خلوة الغلبان» (2003). وقد قدم الأستاذ إبراهيم أصلان نفسه بأنه اعتمد علي تجاربه الذاتية وخبراته بالحياة في تصوير كثير من شخصيات وأجواء قصصه، وعبر عن هذا في بداية روايته مالك الحزين بتكرار مقوله فاليري: الدقة أفضل من الوضوح، وفي هذه الرواية صور شخصا أصيب بكف البصر لكنه ظل يتصرف كما لو كان لا يزال مبصراً.. وأجاد تصوير مشاعر البطل وشكوكه وتحولاته الفكرية والنفسية طيلة الفترة التي أخذ بصره يتضاءل فيها مع مفارقات طريفة تعكس المشكلات العصرية والتحولات الاجتماعية. وفي "وردية ليل" وصف بذكاء ولماحية تجربة موظفي تلغرافات في وردية الليل في عصر ذي طبيعة خاصة، وفي «خلوة الغلبان» صور حياة مصري يهودي عاش طفولته في مصر قبل أن يهاجر إلى فرنسا منذ أربعين عاما ليصبح أحد علماء النفس المعروفين في فرنسا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.