أظهر تفشي فيروس كورونا المستجد تفاوتاً كبيراً في تعامل الدول مع الأزمة، وكشف أولويات الحكومات والأنظمة أمام شعوبها. ففي الوقت الذي عارض فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فكرة الحجر الصحي بسبب تداعيات ذلك على اقتصاد الولايات المتحدة، كانت الصين قد قطعت شوطاً كبيراً في مكافحة الفيروس والحد من انتشاره، وذلك بفضل إجراءات العزل التي طالت أكثر من 60 مليون مواطن.
ولا يختلف اثنان على أن التدابير الصارمة التي اتخذتها السلطات الصينية، وإن كانت قد تسببت في ركود ثاني أكبر اقتصاد بالعالم، ساهمت إلى حد كبير في السيطرة على الفيروس وتصفير أعداد الإصابات، ما أدى إلى رفع الحجر الصحي لاحقا عن جميع المدن والمناطق بمن فيها مدينة ووهان بؤرة تفشي الوباء. هذا التفاوت دفع عشاق المقارنات، إلى إجراء مقاربة بين تعامل كل من بكين وواشنطن مع الأزمة، لينقسم هؤلاء بين فريقين: واحد يعتقد بأن الصين لعبت دوراً مسؤولاً تجاه المجتمع الدولي، وآخر يحملها المسؤولية ويتهمها بإخفاء معلومات كان يمكن أن تجنب العالم الكثير من الخسائر البشرية والمادية.
سبب هذا التملق الذي لا تنشده الصين ولا تشعر به أصلاً، فيمكن إرجاعه إلى أمرين: أولاً، انكسار الأنظمة العربية وتبعيتها للغرب، ما يجعل المغترب العربي يبحث عن بديل يضرب بسيفه لإرضاء حاجة نفسية لها علاقة بالاعتداد والشوفونية |
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية دخل كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في حرب باردة استمرت أكثر من أربعة عقود، وخلال تلك الفترة ظهر منظرون وقوميون عرب سوقوا للنموذج الاشتراكي باعتباره يمثل صوت الأحرار وينطلق من قيم إنسانية في معاداته للنظام الرأسمالي اللاأخلاقي، ولكن سرعان ما انهار الاتحاد السوفيتي تحت مد الرأسمالية في تسعينيات القرن الماضي.
اليوم يعود هؤلاء إلى الواجهة في ظل جائحة كورونا للحديث عن انهيار النظام الدولي، وأفول نجم الولايات المتحدة، والتبشير بنظام دولي جديد تقوده الصين، وذلك استناداً إلى دورها في قيادة الجهود الدولية لمكافحة الوباء، مقابل انكفاء الدور الأمريكي، وفشل إدارة ترامب في تأمين حتى المستلزمات الطبية للمواطنين.
ولكن هل بالفعل تسعى الصين إلى قيادة العالم؟ هذا السؤال لطاما أجاب عليه مسؤولون صينيون، مؤكدين أنه لا توجد نوايا لدى بكين في بسط نفوذها، سواء حين تعلق الأمر بمبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013، أو بمساهمتها في قوات حفظ السلام الدولية باعتبارها أكبر مساهم بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، أو حتى حين تعلق الأمر بإمداداتها الطبية للدول المتضررة بفيروس كورونا.
المتابع للشأن الصيني يدرك أن فكرة الهيمنة والعقلية الاستعمارية لا أساس لها في سياسة الصين الخارجية التي تقوم على خمسة مبادئ أساسية تعرف بـ "المبادئ الخمسة للتعايش السلمي" وهي: الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، عدم الاعتداء المتبادل، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، المساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي.
ورغم مرور أكثر من ستة عقود على طرح هذه المبادئ التي اعتمدت في مؤتمر باندونغ عام 1955، فإنها لا تزال تمثل النهج السياسي أو المرجع الذي تحتكم إليه بكين في علاقاتها الدولية، وبالتالي فإن الحديث عن ريادة دولية للصين مجرد تأطير نظري يهدف إلى تسويق النموذج الاشتراكي بديلاً للهيمنة الرأسمالية.
في ربوع الصين المترامية، يقطن عشرات الآلاف من أبناء الجاليات العربية، بعضهم جاء للعمل، وآخرون جاءوا للدراسة واستقر بهم المقام إما بسبب الحصول على وظيفة بعد التخرج، أو لظروف سياسية واقتصادية تمر فيها بلادهم، ومن بين هؤلاء أيضاً من ينظر إلى الصين باعتبارها الدولة الفاضلة.
بل يقوم بعضهم مقام الناطق الرسمي باسم الجمهورية الشعبية، تراهم ينقلون في حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، تصريحات رسمية، وخطابات للرئيس الصيني، ومقتطفات مما ينشر في افتتاحيات الصحف الحزبية، وهو أمر لا يقدم عليه الصينيون أنفسهم الذين لم يعتادوا الخوض في السياسية والشأن العام، ليظهر هؤلاء كأنهم ملكيون أكثر من الملك.
أما عن سبب هذا التملق الذي لا تنشده الصين ولا تشعر به أصلاً، فيمكن إرجاعه إلى أمرين: أولاً، انكسار الأنظمة العربية وتبعيتها للغرب، ما يجعل المغترب العربي يبحث عن بديل يضرب بسيفه لإرضاء حاجة نفسية لها علاقة بالاعتداد والشوفونية.
ثانياً، غياب القدوة والقيمة التي يمثلها رئيس الدولة، على اعتبار أن أغلب الحكام العرب لم تنتخبهم شعوبهم واستولوا على السلطة بالقوة، هذا الإستيلاء يخلق حالة من انعدام الثقة والشعور بالدونية، فيطلق الفرد لنفسه العنان في اختيار رئيس على مقاس تطلعاته يمثل النموذج المنشود.
هذه المفاضلة تعيدنا من جديد إلى الانقسام بين النموذجين الصيني والأمريكي وصراعهما المفترض على الريادة، لكنها في الوقت نفسه تكرس حقيقة مرة، أن دورنا كعرب لا يتجاوز حدود الانبهار والتصفيق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.