شعار قسم مدونات

"سبعٌ شداد" كأنها سبعون! رواية جديدة في مشروع نردين أبو نبعة الروائي

blogs سبع شداد

وأنت تشاهد ما تبثه الفضائيات هذه الأيام لعبور نحو 150 ألف مهاجر للحدود التركية البحرية أو البرية باتجاه اليونان، من الظلم أن تنظر إليهم كرقم مجرد، فهم 150 ألف قصة، تختزن كل قصة عشرات القصص وكل عناصر الرواية من حب وفرح وحياة وبغض وحزن وعذاب وتهجير وعنف وبؤس وولادات في قلب الموت، وحياة لا كالحياة..

 

وأنت تشاهد أولئك الساعين للوصول منهكين إلى مصير مجهول لا يعرفون ما وراءه وإلى أين يصل، يهمّهم فقط أنه آمن نوعاً ما، وحين يصلون تشتعل فرحتهم العارمة.. فرحة كالحياة تتأتى من قفزة في المجهول، لهي أكبر دليل على أن ما سبقه كان أكبر من تراجيديا.

 

في رواية "سبع شداد" في آخر الكلمات تستيقظ بطلة القصة من إغفاءتها الأقرب إلى الإغماء، على رائحة الزعتر البري المزروع في الجزيرة. الزعتر الذي يشبه زعتر فلسطين، لكأنها تصف الوصول إلى الجزيرة (أولى خطوات المهجر) بخطوة للوصول إلى فلسطين. إلى هذا الحد كان انعتاق بطلة القصة من تجربة الحصار والتهجير، وانتقالها من قاع حياة اللاجئين إلى قاع حياة الغرب. هذا القاع الثاني بنظر الغربيين هو قمة جديدة بنظر من كاد يموت جوعاً في الحصار أو التعذيب أو التهجير!

 

الرواية توثق لبعض أحداث مخيم اليرموك، لكنها ليست يوميات دقيقة، فهذا لا يحتاج أكثر من ورقة وقلم. لكن الرواية تمثل عيش الحصار بالروح والمشاعر وما يعبر عنها من دموع وابتسامات صفراء وجوع

رواية "سبع شداد" هي الرواية الرابعة للكاتبة نردين أبو نبعة، ضمن مشروعها الروائي الذي بدأته برواية "إني وضعتها أنثى" عن حياة اللاجئين في أكثر من بلد خارج فلسطين. ثم كانت الرواية الثانية "شغفها حباً" عن المقاومة في عيون زوجات قادة المقاومة، ثم كانت "باب العمود" عن الأسرى والمسرى. وأخيراً رواية "سبع شداد" عن حصار مخيم اليرموك والجوع، رحلة اللجوء الثانية إلى تركيا ثم أوروبا، وهي أول رواية تصدر عن مأساة فلسطينية سورية، ولم يصدر عنهم من الأدب إلى مجموعة قصص للكاتب راكان حسين من السويد..

 

صحيح أن الكاتبة تزداد احترافية في كتابتها، لكنها لا تعتمد على رشاقة أسلوبها فقط أو خيالها المحض، أو معلوماتها المحدودة. نردين تشتغل على المعلومة وتنقّحها وتقاطعها مع غيرها من المعلومات، وتعتمد أسلوب الديكودراما (التوثيق الدرامي)، ويترافق سياقها الدرامي مع السياق التوثيقي للأحداث.

 

في أثناء قراءة الرواية عِشت أحداثها، لكوني جربت حصار تل الزعتر (1976) وحصار المخيمات (1985) والاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت (1982)، وجربت الخروج تحت حراب المحاصِرين.. فعشتُ مع عائلة مؤيد وخزامى، وعرفتُ مشاعر ابنتهم بيسان وثقل مهامها في غياب والديها، وجرّبتُ الخروج بعد الحصار.. فقرأتُها بألم الواقع الحالي وذكرياتي القديمة..

 

وأكاد أهنئ الكاتبة على خروجها بالسلامة من هذه الرواية، خصوصاً أنها تكتب بصيغة المتكلم، وتعيش في قلب الرواية، ليس بفعل صيغة المتكلم فحسب، بل بفعل روح بطلة الرواية ونبضها (سواء في هذه الرواية أو في الروايات السابقة). ولا أظنها كتبت أياً من رواياتها تحت تأثير جمالية أحداثها، ولكنها تكتبها لأنها تأثرت بها وعايشتها بكل مشاعرها.

 

الرواية توثق لبعض أحداث مخيم اليرموك، لكنها ليست يوميات دقيقة، فهذا لا يحتاج أكثر من ورقة وقلم. لكن الرواية تمثل عيش الحصار بالروح والمشاعر وما يعبر عنها من دموع وابتسامات صفراء وجوع.. الذي خصصت له فصلاً بعنوان (الجوع خائن)، كتبته في نص مبدع وقراءة متعددة الأبعاد والمعاني..

 

غير أن النص الأكثر إبداعاً في الرواية، هو فصل (أبو جحيم)، لما فيه من شواغل نفسية متناقضة تفهم من خلالها (وقد تتفهم) لماذا أصبح قناصاً يقتل أبناء شعبه. الرواية في النصف الثاني تشبه (رجال في الشمس) بدون شمس، لكنها عن عائلات وأطفال وليل وبرد. وتظهر فيها شخصية أبو الخيزران من خلال المهرب (أبو فصيح) الذي أخرج العائلة من دمشق إلى الحدود التركية، وإذا كان أبو فصيح لم يصرخ كأبي الخيزران (لماذا لم يدقّوا جدران الخزان)، فإن الرواية أكدت في أحد عناوينها أن (بعض الكلمات مشانق، لكن بعض الصمت خيانة)، مؤكدةً على واجب الحديث عن القضية الفلسطينية عموماً وتخصص منها مخيم اليرموك. الفصل الأخير تحدث عن البحر والتهريب والغرقى وغير ذلك من أحداث جسيمة في البحر، حدثت مع المهاجرين، الذين عانوا الأمرّين من استغلال المهربين.

 

جذور متعانقة

لطالما كنت أقول دائماً أن عدد الفلسطينيين الذين اقتلعوا من فلسطين حوالى 900 ألف، لا يمثلون 900 ألف شخص، بل 900 ألف قصة.. كل شخص يحمل جرحه ومعاناته وخط حياته القاسي.. المادة الدرامية كثيفة الأحداث والمشاعر، وكافية لآلاف القصص، لكن الذي يُحدث الفارق هو الروح والمداد والقلم الذين إذا اتحدوا خرجت الرواية بإضافاتها ولمسات كاتبها.

الكاتبة نردين، لم تبدأ الرواية من حصار اليرموك، بل من القصص الكثيرة والذاكرة، من الجذور المتعانقة في التاريخ الفلسطيني.. بدأتها بقصة ظريف الطول التراثية وما تحمله من معانٍ وطنية وإشارة إلى الخيانات والحصار والجوع. بشكل يربط الماضي بالحاضر، ويربط فلسطين بالثورات العربية وثورة عز الدين القسام في ثلاثينيات القرن الماضي.. ثم لا تلبث أن تستخرج ذاكرة الجدة مهجة وقصتها في قريتها قبل النكبة عام 1948.

 

ومما يدلّ عن اندماج الكاتبة وتماهيها بالرواية، هو دخولها على أحداثها من خلال رسائل حقيقية كانت العائلة ترسلها لعمها الأسير في فلسطين عبر الصليب الأحمر. بل أزعم أنها عاشت شخصية خزامى (الكاتبة والمناضلة) التي نسبت إليها الرسائل (الحقيقية)، والهدايا التي كانت تصلها من السجن. تدرك الضحايا -في الرواية- أنها أضعف من أن تقاوم الجلاد وتفضحه، حتى محاكم العدل في الأرض ضده، وليس له في النهاية إلى محكمة السماء.

 

ورغم هذا الإدراك، يدركون أيضاً، أنهم يجب أن لا يتوقفوا عن الحكايات، حكايات شعبنا وقضيتنا ومقاومتنا، حكايات بيسان لإخوتها في الحصار كانت توصل لهم أن قيامة الفلسطيني وحسابه وجنته هي يوم تحرير أرضه والعودة إليها. واجب الحكايات، يجب أن يستمر، حكايات ما قبل النكبة والنكبة والتهجير والحصارات والجوع والتهريب والقوارب والقدس والأسرى والمقاومة.. يجب أن لا نترك شيئاً من دون أن نحكي عنه، فنحن الحكايات وأيامنا أزمانها وخطواتنا خطوطها السردية الحيّة. سنحكي ونحكي ونحكي حتى تنتهي "السبعون الشداد" من سنوات اللجوء الفلسطيني..