شعار قسم مدونات

قصة امرأة عازفة عن الزواج!

blogs امرأة

جمالها لا ينكره إنسان، وحُسنها ظاهر بين الحِسان. وشهادة الدكتوراه المعلقة على جدار صالون منزل والديها تشهد بدرجتها العلمية. وربما لهذين السببين أو لغيرهما من الأسباب، راحت تعتقد أن الرجل الذي يستحقها يجب أن يكون على قدر من الوسامة والاقتدار المادي والكفاءة العلمية والخُلُق الكريم، بحيث راحت تستهزئ بالخُطّاب وبالعشّاق الواحد بعد الآخر. وكان بينهم من يستحقها عن جدارة، وسامة واقتدارا ماديا وكفاءة علميا وخلقا كريما. 

 

الآن، وهي على عتبة الأربعين، بدأ بريق حسنها يذوي، وانصرف عنها الخُطاب والعشاق، ولا تزال تكرر كلما سئلت أو كلما ذكر موضوع الزواج أمامها: "لا يوجد أي رجل يستحقّني". وفات هذه المسكينة أنها بهذا السلوك قد نفّرت منها جميع الرجال، سواء الذين يستحقونها أم الذين لا يستحقون. إلا أنه من الاستحالة بمكان أن تعترف أن تطلّبها الزائد ومعاييرها المرتفعة جدًّا هي السبب الوحيد في فشلها بالزواج حتى اليوم. فاللوم دائمًا يقع على الرجال. فصاحب المال يفتقر إلى العلم. والمثقف المتعلم يشكو من ضيق ذات اليد. والذي اجتمعت لديه الدرجة العلمية الرفيعة مع بحبوحة ماديةٍ لا يتمتع بأي أثرٍ من آثار الوسامة، فتبدو قسماته في غاية الدمامة. 

 

بعد أن طَوَتْ صفحة السفر إلى لبنان، وصارت تعارض بشدة أي رحلة إلى هناك، صارت تختار في كل إجازة وجهة جديدة للاستجمام والتمتّع والسياحة. وقد أدمنت زيارة باريس بشكل رهيب

وكان والدها، والذي وافته المنية منذ خمسة أعوام، قد شهد تخرجها من الدكتوراه في علم الأحياء قبل وفاته بعامين. وبلغ من حرصه عليه وعلى والدتها أنه تخلّص من ميراثه بعد أشهر قليلة من تشخيص سرطان الرئة لديه، فكتب نصف الميراث باسم الوالدة والنصف الآخر باسم نورا، التي كانت وحيدة والديها. وكان ما تركه من ميراث في حياته يسمح لهما بحياة كريمة دون الحاجة إلى الكدّ والكدح حتى نهاية عمريهما.

 

ولم يفلح الوالد في تزويج وحيدته التي رفضت كل خُطّابها. ومات وهذه الحسرة في قلبه. فهو كان يريد الاطمئنان على "أميرته"، كما كان يداعبها، قبل أن ينتقل إلى العالم الآخر. وإن كانت نورا ورثت عن والدها ذكاءه وكاريزماه، فإنه ورثت عنه أيضًا العناد والتشبّث بالرأي والاعتداد بالنفس، ولذلك عرف عمر الحسيني باكرا أن مهمته في تزويج نورا لن تكون سهلة أبدًا. وهو، كأي أب عطوف، كان يحرص على مراعاة شعور وحيدته واحترام رغباتها وقراراتها. 

 

وقد أرسل عمر الحسيني كريمته الوحيدة عدة مرات، في فترات الصيف، في مراهقتها وشبابها، إلى منزل جدها وجدتها في سهل البقاع بلبنان، خلال فترات العطلة الدراسية في أيام المدرسة والجامعة في ساو باولو. وكان الهدف الخفيّ الأبرز من وراء هذه الرحلات، من البرازيل إلى الوطن، كان هذا الهدف خلق جو ملائم وإتاحة فرصة للشابة نورا أن تجد شريك حياتها المناسب. إلا أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل. على أن نورا، في واحدة من تلك الرحلات، قدّمت تنازلا كبيرا لوالدها باستعدادها للزواج من ابن عمها، لكن كيد زوجة عمها -أي أم العريس- حال دون ذلك. وكانت هذه الحادثة السبب الذي أدّى إلى تخلّي عمر الحسيني نهائيًا عن فكرة تزويج ابنته في أرض الوطن. لكن الأمل ظل يحدوه بأن تجد نورا نصيبها مع أحد أبناء الجالية العربية في البرازيل من أولاد الحلال. 

 

وجدت نورا في حياتها الجامعية كطالبة في البداية، وكأستاذة جامعية في ما بعد، وجدت سلواها وضالتها في نشاطها الأكاديمي اللامع وفي إنتاجها العلمي الغزير وذي القيمة العالية. وبالرغم من تأقلمها التامّ مع المجتمع البرازيلي ومع البيئة الأكاديمية، إلا أنها ظلت رافضة لفكرة الارتباط بأي رجل برازيلي من خارج الجالية العربية. وكانت فكرة الزواج من رجل قد غرسها والداها في صميم كيانها منذ نعومة أظافرها. ومع أن الفرص كانت متاحة أمامها للانسلاخ بسهولة من هذا الالتزام، إلا أن معزتها الفائقة لوالديها، واحترامها الكبير لهما، جعلاها تصرف النظر نهائيا عن مجرد التفكير بهذا الاحتمال. 

 

وبعد أن طَوَتْ صفحة السفر إلى لبنان، وصارت تعارض بشدة أي رحلة إلى هناك، صارت تختار في كل إجازة وجهة جديدة للاستجمام والتمتّع والسياحة. وقد أدمنت زيارة باريس بشكل رهيب، لدرجة أنها كانت أحيانا تتوجه إلى العاصمة الفرنسية في زيارات خاطفة لا تتجاوز الواحدة منها الأسبوع. وكانت تسافر بمفردها حينًا ومع والدتها حينًا آخر ومع صديقاتها في غير مرّة. ومن أحب النشاطات إلى قلبها في أيام الإجازات المطالعة بنهم. وتشمل مطالعاتها الروايات والشعر والفلسفة والتاريخ والسياسة. وإلى جانب البرتغالية والعربية، فإنها كانت تتقن اللغتين الفرنسية والإنكليزية. 

 

كان أشقاء وشقيقات عمر الحسيني موزعين بين لبنان والبرازيل. في حين أن أشقاء وشقيقات زوجته كانوا جميعا في البرازيل. ورغم أن نورا كانت تتصف بالدماثة واللين والبشاشة مع أقاربها، إلا أنها كانت تفضل الاختلاط بصديقاتها وأصدقائها على الاختلاط مع أهل العمومة والخؤولة. وكادت تتلاشى نهائيا علاقتها مع هؤلاء الأقارب بعد وفاة والدها. وذلك لأن البعض منهم حاول، وإن دون جدوى، إقتضام شيءٍ من ميراث والدها. أما مكان الصدارة في قلبها، وبالأخص بعد تخطيها سن الثالثة والثلاثين، فقد صار يحتلها "سلطان" و"نينا"، وهما ليسا إلا قطّها المؤصّل وكلبتها الأصيلة. ولذلك لم يكن بمستغرب أبدا أن تكون صورتها الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي هي تلك الصورة التي التقطتها لها والدتها وهي تعانق سلطان ونينا في نفس الوقت. 

 

ويبلغ معدل ما تنفقه نورا على سلطان ونينا ألف وثلاثمائة دولار شهريًا، وهذا دون حساب ما قد يطرأ من نفقات إضافية، من مثل زيارة الطبيب البيطري. وكانا في كثير من الليالي يشاركانها النوم على سريرها الواسع الوثير. وليس أبلغ دلالة على عمق المحبة، التي تخصهما بها نورا، من مناداتهما بابني وبنتي. ولا نجافي الحقيقة إن قلنا إن سلطان ونينا، في صميم وعي نورا، هما فلذتا كبدها بلا جدال.  

 

بالأمس احتفلت نورا الحسيني بعيد ميلادها الثامن والثلاثين. وكان الحضور مقتصرا على والدتها وصديقاتها وأصدقائها، ومعظمهم من الدكاترة زملائها في الجامعة. ولم تنسَ نورا أن تهيّئ سلطان ونينا بما يليق بمناسبة كهذه. فبالإضافة الى اغتسالهما وتزيينهما في محل مختص بتزيين الحيوانات الأليفة، فإن صاحبتهما حرصت على شراء ملابس جديدة لهما احتفاءً بهذه المناسبة. وعندما التقطت الصور على الهواتف المحمولة، ظهر سلطان ونينا في جزء كبير منها. كانت حفلة عيد الميلاد في منزل العائلة الواقع في حي جاردينز، وهو أرقى أحياء ساو باولو على الإطلاق. ومع أن الحضور لم يكن كبيرًا، فإن طاقمًا مختصا كان يقوم بإعداد المأكولات والمشروبات وبخدمة الضيوف. 

 

بعد أن غادر الحضور جميعهم وأوت والدتها إلى مخدعها، دخلت نورا إلى غرفتها وسارعت إلى الاستحمام بالماء الساخن. أثناء الاستحمام، راحت تستعرض حياتها حتى هذه اللحظة وتستعيد شريط الأحداث بحلوها ومرّها. وما فتئت تردد لنفسها أنها ما تزال عزباء لأنه ما من رجل يستحقها. وأخذت تتذكّر خُطّابها وعُشّاقها واحدًا واحدًا، فتزيد ثقتها بأنها اتّخذت القرار الصائب ويصير يقينها بالسعادة كبيرا. ولكنها ألفت نفسها، بعد الحمّام، تستغرق في مصائر أترابها من الذكور والإناث، فوجدت أن معظمهم قد أسس أسرته الخاصة وأنجب ذرية ترثه وتؤنس حياته. أما عندما أوت إلى فراشها، فإنها غرقت في بكاءٍ صامتٍ صار نشيجًا بلّل مخدتها قبل أن يتركها لنوم عميق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.