شعار قسم مدونات

كيف تعمل روسيا على إسقاط أمريكا النيوليبرالية؟

blogs بوتين

يركز الإعلام بشكل عام على الخطر الذي قد تشكله الهيمنة الصينية على الاقتصاد العالمي من خلال إضعاف الاقتصاد الأمريكي، ويغفل بشكل كبير عن الخطر الذي تلعبه أجهزة الاستخبارات الروسية في العبث في مفاهيم الشعوب الغربية من خلال تأسيس الفكر الشعبوي ومنطلقات اليمين الديني المتطرف. تسعى هذه المقالة إلى الإجابة على السؤال الرئيس من خلال استقراء أنماط المفاهيم التي تروج لها بعض الوسائل الإعلامية الشعبوية واليمينية الغربية والأمريكية.

التاريخ الروسي وخبرات تغيير المفاهيم الاجتماعية

بعد الحرب العالمية الثانية، كان معظم العالم الغربي معتنقاً لشكل من أشكال الشيوعية أو الاشتراكية. ففاز الاشتراكيون فوزاً ساحقاً في أول انتخابات بعد الحرب في بريطانيا. وانتشرت مفاهيم الشيوعية في أمريكا، ما أدى إلى بروز نجم البيروقراطيين الذي أسسوا وروجوا لعهد "الصفقة الجديدة"، ودولة الرفاه، والتدخل الحكومي في الأسواق، وازدياد الرقابة الحكومية على كل شاردة وواردة. في تلك الحقبة، لم تكن وكالة الاستخبارات الأمريكية بمفهومها الحالي قد تأسست بعد، لكن الداعي لتأسيسها، بشكل أساس، كان محاربة الأفكار الشيوعية في كل مكان، وتأسيس مفاهيم جديدة تتعلق بالحرية الفردية والديموقراطية والترويج لها عالمياً من خلال إخضاع أنظمة الدول في بلدان العالم لتبني ما تروج له أمريكا.

يعد البنك الاتحادي الفيدرالي من أبرز الرموز العالمية التي ترتبط بها العقيدة النيوليبرالية التي تتحكم في كل مفاصل الاقتصاد العالمي. فملاك البنك الاتحادي الفيدرالي هم من يصدرون الدولار، وهم يتحكمون في تسيير الجيش الأمريكي للحفاظ على سيطرة أمريكا الاقتصادية

الغريب في الأمر أن مفاهيم الحرية الفردية والديموقراطية هي الآن المنطلق الذي تدخل منه أجهزة الاستخبارات الروسية من أجل الترويج للشعبوية واليمين الديني المتطرف. فما هي آليات العمل الروسية لدعم الفكر الشعبوي واليميني المتطرف؟ وكيف ستستفيد روسيا من ذلك؟ يعرض برنامج "الإنترنت المظلمة" على نيتفليكس في إحدى حلقاته مقابلات مع شباب تم تجنيدهم ضمن جماعات اليمين الأبيض المتطرف في أمريكا. وتروي إحدى الشابات تجربتها من خلال تعلقها في العالم الافتراضي بشاب قام بغرس مفاهيم العنصرية للبيض وكراهية المهاجرين في عقل تلك الشابة التي افتتحت قناة على يوتيوب وبدأت ببث مقاطع مصورة للأفكار المتطرفة، وقد حصلت على الآلاف من المتابعين وعشرات الآلاف من المشاهدات. وقد لجأت أسرة الشابة إلى أحد المستشارين الذي تعافوا من "مرض التطرف" وأسس مركزاً استشارياً مجانياً ليكافح الأفكار البيضاء المتطرفة بين الشباب. وبعد تتبع للشاب الذي جند الفتاة تبين أنه من المخابرات الروسية التي قامت بدورها بمهاجمة الموقع الإلكتروني للمستشار.

روسيا راعية المسيحية العالمية والتحالف مع الصهاينة

يدرك المتأمل بما ينشر على المواقع الإلكترونية لليمين الأمريكي والأوروبي المتطرف أن الفكرة الأساسية التي تتمحور حولها تلك المواقع تدور حول إعادة بعث المسيحية من جديد. واللافت في الأمر أن تلك المواقع لا تفرق بين مختلف الطوائف المسيحية التي تربطها علاقات عدائية تاريخية. فروسيا، التي كانت راعية الأرثوذوكسية قبل الشيوعية، تعتبر الراعي الأول للمسيحية في العالم، وتحظى بدعم وتعاطف الكثير من المواقع اليمينية الأوروبية والأمريكية المتطرفة التي تشكل المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية القواعد الدينية العامة لسكانها.

الأمر الآخر المثير للدهشة، أن المواقع اليمينية المتطرفة تدعم الكيان الصهيوني، وتكيل المديح لنتنياهو وتروج لكل ما من شأنه رفع مستوى التوعية (الباطلة) بوجهات النظر الصهيونية. ولعل حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حفل تأسيس الكيان الصهيوني مؤخراً يقدم دلالات على ارتباط روسيا بنشر مفاهيم الشعبوية واليمين المتطرف المؤيد لـ"إسرائيل". وقد يشي بتحالف روسي صهيوني في هذا الصدد.

الهجوم الحاد على النيوليبرالية العالمية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص

يعد البنك الاتحادي الفيدرالي من أبرز الرموز العالمية التي ترتبط بها العقيدة النيوليبرالية التي تتحكم في كل مفاصل الاقتصاد العالمي. فملاك البنك الاتحادي الفيدرالي هم من يصدرون الدولار، وهم يتحكمون في تسيير الجيش الأمريكي للحفاظ على سيطرة أمريكا الاقتصادية في كل إنحاء العالم، وهم من يهمهم أن يظل الاقتصاد العالمي مرتبطاً بدولار أمريكا. لكن سياسات النيوليبرالية أصبحت متهالكة بعد تسيدها المشهد الاقتصادي والسياسي في ثمانينيات القرن المنصرم. فقد عملت على إفقار الشعوب والدول، وتوسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتمكين الشركات العابرة للقارات التي تسيطر عليها قلة من أثرياء العالم من التغول على ثروات الشعوب والتحكم بحكوماتها.

كل تلك الأمور تعد أسباباً موجبة لتبني الشعوب أي معتقدات مضادة للنيوليبرالية العالمية. لكن روسيا وأجهزة استخباراتها عملت على استغلال كره الشعوب الغربية للوضع القائم في بلدانها، وبث مفاهيم مضادة للنيولبرالية ضمن قالب اليمين المتطرف. فلا تخلو مواقع اليمين المتطرف من الهجوم الحاد على ملاك الاتحادي الفيدرالي الأمريكي، وربط ذلك البنك بأسماء عائلات ثرية مثل روتشيلد وركفيلر ومهاجمة تلك العائلات بضراوة. اللافت في الأمر أن تلك العائلات لعبت دوراً كبيراً في تأسيس الكيان الصهيوني لكنها الآن تهاجم من قبل الشعبوية التي تدعم نتنياهو ودونالد ترمب. فهل هذا يعني أن أدوار تلك العائلات انتهت، أو أصبحت غير صالحة للاستعمال من وجهة نظر مشروع الكيان الصهيوني الجديد؟

اختراق اليمين في الجهاز التنفيذي الأمريكي

أبرز وثائقي "العائلة" على نيتفليكس كيفية اختراق عميلة روسية الجهاز التنفيذي المشرف على تنظيم إفطار الصلاة الوطني (The National Breakfast Prayer) الذي ينظم في الخميس الأول من شهر فبراير في كل عام في العاصمة الأمريكية واشنطن. ويفيد الوثائقي أن جهاز أف بي آي لم يتمكن حتى تاريخ التصوير من الحصول على بيانات من المنظمين فيما يتعلق بكيفية دعوة تلك العميلة الروسية لحضور ذلك الحدث الذي يمكن حاضره من تكوين علاقات مع شخصيات سياسية في مواقع أمريكية حساسة. كما يظهر الوثائقي ارتباط العميلة الروسية، بشكل مباشر وغير مباشر، بالجمعية الوطنية للبنادق (NRA) أكبر جماعات الضغط المؤيدة للرئيس ترمب.

ويتمحور وثائقي "العائلة" حول كتاب ألفه جيف شارليت، قبل عقد من الزمان، يروي فيه تجربة انغماسه المتعمدة ضمن التنظيم اليميني المتطرف في أمريكا. أما الكتاب "العائلة: أسرار الأصولية في قلب السلطة الأمريكية" فهو سخي بالمشاهدات التي من شأنها تعزيز مفهوم المسيحية العالمية وخدمة رسالة المسيح بغض النظر ديانة الخادم أو أفكاره. ويعطي الكتاب تفاصيل كثيرة عن شخصيات في قلب صناعة الحدث في أمريكا وكيفية حماية تلك الشخصيات لبعضها داخل وخارج أمريكا. وهنا يتضح أن اختراق روسيا للسياسة الأمريكية من خلال الأصولية أمراً أسهل مما يتخيله الكثير من الناس، بل من الممكن أن يكون مسهلاً له من قبل اليمين المتغلغل في الجهاز التنفيذي الأمريكي.

الدعم السخي للجمعيات الخيرية في أمريكا

تعتبر روسيا داعماً كبيراً للكثير من المنظمات الخيرية الدينية الأمريكية، وبالتالي مسيطرة على أفكار الأعضاء المنتمين لتلك المنظمة، وقادرة على ترويج ما تريده من أفكار يمينية متطرفة في سبيل تحقيق أهدافها. وقد أبرزت تقارير لمنظمات مناهضة لليمين المتطرف في أمريكا سخاء الدعم الروسي لعدد من الجمعيات الخيرية الدينية الأمريكية. كما أبرزت التقارير أن الكثير من الدعم تحصل عليه المدارس الدينية. ومن جهة أخرى، نشر موقع آر بي أس مؤخراً دراسة أكاديمية مهنية أوضحت أن حجم التبرعات الروسية حول العالم بلغ ٦ مليار دولار في العام ٢٠١٨. كما أوضحت دراسة أخرى أن ٣٦٪ من التبرعات الروسية تذهب باتجاه الأمور الدينية، في حين أن الأمور المتعلقة بالأطفال تناهز الـ ٤٠٪. وكذلك هناك الكثير من القرائن حول التدخل الروسي المالي في الانتخابات الأمريكية من خلال الإعلانات على مواقع التواصل الاجتماعي، وما تحقيق مولر ببعيد.

ما هو الهدف الذي ينشده الروس؟

يعلم فلاديمير بوتين وجهاز المخابرات الروسي أن أمريكا تدخلت بشكل مباشر وغير مباشر في إسقاط الاتحاد السوفيتي. وقد سقطت عقيدته الشيوعية في مواجهة الرأسمالية الأمريكية النيوليبرالية تحديداً. ويعلم الروس تماماً أن سقوط أمريكا ذات النفوذ العالمي لا يمكن أن يتم إلا بسقوط النيوليبرالية. لذلك تعمل روسيا على دعم كل الحركات الشعبوية واليمينية التي تعتبر مهاجمة الرأسمالية النيوليبرالية من أهم معتقداتها. وتعلم روسيا، أن تطبيق مثل هذا النهج بعون من الكيان الصهيوني ونفوذه يعد أمراً في المتناول. لذلك، تظهر العلاقات الصهيونية الروسية على السطح بشكل أكثر وضوحاً من ذي قبل، والغائب الأكبر، أو الحاضر المفعول به، هم العرب، كعادتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.