شعار قسم مدونات

أي تغيير يفرضه الوباء عربياً.. لنتعظ؟

blogs كورونا

كانت المتغيرات النوعية التي عصفت بالساحة الدولية والعربية على مدار ثلاثة عقود، كبيرة في تأثيراتها بالقوة والأهمية بمكان وقوعها، وأحدثت تغييرات وتحولات كبيرة، من انفراط عقد الكتلة الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، إلى هيمنة السياسة الأمريكية مع اندلاع حرب الخليج الأولى والثانية، وما تخلل ذلك من فرض عملية سياسية تخص الصراع العربي الإسرائيلي إلى مآلات زادت في عمق وتفاقم الأزمة التي تعيشها "عملية السلام" والقضية الفلسطينية، فضلاً عن اندلاع شرارة الربيع العربي، الذي أنهى مرحلة وبدأ أخرى بمواصفات وأبعاد واستحقاقات باهظة الكلفة لجهة قمعها مع ضخامة ضحاياها وأثرها البالغ في سوريا، فإن أعوام من الانهيار المريع لسياسة عربية مناكفة للذات والآخر، تشكل في مجملها منعطف جديد بجانب تحدي فاشل لمواجهة وباء فيروس كورونا، الذي يعتبره بعض النظام العربي فرصة "ذهبية " باتجاه تكريس حالة من القمع بذريعة مكافحة الفيروس لفظاً وتضييق الحصار على الذات والشقيق، مع انعدام وسائل دعم الإنسان على الأرض.

تقليد حالة منع التجول وإجراءات أخرى تحاكي جوهر قبضة السلطات الأمنية، فمن فشل عن معرفة مكانة الإنسان وكرامته في وطنه ووضعه في درج الاحتقار المظلم، لن يكون بمقدوره مواجهة أي تحدي وفرض تغيير ينسجم وعافية المجتمعات إلا في حدود إعادة التنسيق والتلاحم بين طغاة همهم الأول والأخير سحق البشر والتآمر على الشعوب، وآخر اهتمامهم صحة وعافية الإنسان في مواطنته وحريته. في معمعان الهستيريا البشرية من الوباء، تنتشر ثقافة أبواق الأنظمة في وصف ما تتعرض له مجتمعات أخرى لجهة انتشار الفيروس مقارنة بمجتمعاتها، لتقول لسنا وحدنا، والتقصير الحاصل نتقاسمه مع دول عظمى في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان، وأن العجز مرده للحصار المفروض علينا، متناسية هذه الأنظمة وابواقها أن التنمية البشرية ومجمل الاستثمار الذي يخص حياة البشر بعيد كلياً عن برامج أنظمة الأستبداد طيلة عقود ما قبل الفيروس.

فردية الخلاص لأي أمة وشعب في المنعطفات التاريخية غير منجية في الإصرار على انكار تفشي القمع، والاستبداد والقهر والمرض والانغلاق وسياسة تكميم الأفواه والقتل تحت التعذيب واكتظاظ الزنازين والمعتقلات بمئات آلاف البشر

المنعطفات التاريخية في حياة الأمم والشعوب، تُشكل نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، رغم تواصل الماضي بالحاضر والحاضر بالمستقبل، هذا الانتقال يرافقه عملية تغيير في الأدوات والبرامج والخطاب السياسي، وربما تطال عملية التغيير الشعارات والأيديولوجيات، كل ذلك لمواجهة مرحلة جديدة باستحقاقاتها المتعددة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع عوامل الجغرافيا والديمغرافيا، حدث ذلك بعد الحرب العالمية الأولى، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، كمنعطفين تاريخيين في تاريخ البشرية، فاختفت امبراطوريات ونشأت أخرى واختفت عن الخارطة دول ونشأت دول واتحدت أخرى.

تغيرت مفاهيم وتطورت، في حقب مختلفة، يحدث الشيء نفسه بشكل متسارع مع انتشار وباء "الكورونا" ليفرز واقع جديد من العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبأدوات جديدة وبرامج تغيير مؤقت لما هو سائد منذ سبعة عقود بخط بياني يتصاعد كل لحظة، انكفاء على الذات وتراجع عن الانفتاح وحيطة وحذرُ لكل ما هو قادم من خارج الحدود، ودمج الهم العالمي في حدود البحث عن طرق مكافحة الوباء يُدخل العلاقات الاقتصادية في مرحلة قريبة من الانهيار، حيث بدأ مؤشر سوق الطاقة بالهبوط، واتخاذ تدابير إغلاق دول "شينغن" الأوروبية للحدود وإغلاق مطارات وإلغاء رحلات بين كثير من دول العالم وإلغاء فعاليات ومؤتمرات واجتماعات وغيرها.

ينذر كل ذلك بمنعطف خطير على عالم اعتاد على الانفتاح والعولمة والتنقل والتبادل الحر، من ثم الانتقال المفاجئ للعزل الجماعي للشعوب بشكل طوعي أو اجباري، حتى لو كانت الفترة محدودة لا يمكن احتمالها في أوج "شموخ العولمة" وعنفوان حرية التنقل والتبادل التجاري والثقافي بين شعوب الأرض، لكن كل ذلك لا يمكن مشاطرته أو مقارنته مع بنية عربية عاجزة ومتخلفة عن مواكبة حماية مجتمعاتها في مرحلة "الشفاء". أسئلة كثيرة تطرح عربياً على ضوء الواقع الجديد الذي فرضه تحدي مواجهة فيروس كوفيد 19، في ظل القصور والعجز الصارخ لمنظومة عربية ظلت تتفاخر بقدرتها على قمع شعوبها، تتلطى اليوم خلف "فيروس" لاستكمال ما بدأته بحالة أكثر من التأزم والارباك، وفي محاولة منها للتكيف مع واقع جديد تعتبره الفرصة الأنسب لبسط السيطرة وفرض القهر والقمع.

هل ما يجري يتطلب أشكال وأدوات وآليات جديدة للتعاطي مع تحديات لا يقل شأنها عن كل ما طرأ في المنعطفات السابقة؟ وهل نحن أمام استحقاق يقضي بتغيير البرامج والشعارات وصيغ التآمر على الذات وفرض الحصار في حالة الهستيريا والهلع من فايروس؟ بينما ننتظر أن تزول غمة الوباء، وقبل الإجابة على هذه الأسئلة والخروج من الإشكاليات التي تعيشها سياسة عربية منحدرة، لا بد من تثبيت حقيقة وظاهرة مُسَلَمْ بها، أن فردية الخلاص لأي أمة وشعب في المنعطفات التاريخية غير منجية في الإصرار على انكار تفشي القمع، والاستبداد والقهر والمرض والانغلاق وسياسة تكميم الأفواه والقتل تحت التعذيب واكتظاظ الزنازين والمعتقلات بمئات آلاف البشر، وبرصد ميزانيات ضخمة على تسليح يصرف لقتل ملايين البشر وتهجيرهم في العالم العربي، لا يمكن اعتباره طوق نجاة لمجتمعات تئن من أمراض مختلفة، التذرع "بمؤامرة" الحصار والعقوبات المفروضة على أنظمة في إيران ومصر والعراق وسوريا سخرت مواردها لتسمين عصابات السلطة وبناء منظومة أمنية ميليشاوية هي مثل بقية الذرائع المستخدمة لفرض القهر على حياة البشر ولا تصلح ذاتها للذعر من الفايروس.

عربياً هناك مهمة تبدو مستحيلة التحقق، لجهة توفر سيادة القانون والتأمين الصحي واحترام حقوق الإنسان وحق المرأة وفصل السلطات، وضمان حرية الفكر والإبداع وحرية الصحافة، ووضع قوانين عصرية تخدم تكريس الديمقراطية وعملية بناء الدولة ومأسستها بطريقة تواده فيها تحديات يكون الفايروس مروره طارئاً، لا أبدياً في مسميات المرض المختلفة وهي كثيرة في الجسد العربي. فهل نتعظ؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.