في ظل الأوضاع التي يشهدها العالم العربي وجل العالم بصفة عامة من تغيرات في خريطته السياسية الداخلية والخارجية منها، أخد كل مسرى جديد بالظهور بخلق مؤيد ومعارض له كسرب داعم ويناقش الأفكار التي يطرحها تياره ويحاول نشرها وإقناع صاحب التيار المعاكس بنجاعة فكرته وأفضليتها في عالم تنتشر فيه الأفكار والآراء.
ومع تطور العالم وتطور وسائل التواصل فيه لم يعد الفرد بحاجة للصعود فوق منصة من أحد منصات روما القديمة والحشود حوله ليقول رأيه بل لقد ساعد الفضاء الأزرق الفيسبوك بإنشاء منصة افتراضية تعتمد على نفس فكرة منصات روما في نشر الأفكار والآراء مع الناس كل هذا بنقرة زر وسيصل مقالك للألاف بل الملايين المهتمين وحتى غير المهتمين الذين لا يمتلكون رأي سابق حول موضوعك، ما يعني بيئة أفضل لنشر فكرتك على أوسع نطاق ممكن، لكن المتابع والمستعمل للفيسبوك يجب أن يتساءل مع نفسه.. هل هناك شمولية في إيصال منشوراتي أو هل هي محصورة بين مجموعة أشخاص يشاركونني نفس الفكر وإن كانت الإجابة نعم فما الفائدة من النشر على أي حال إن كان احتمال وصول منشوري للجهة المعاكسة شبه مستحيل وما فائدة من نشر فكرتي مع أشخاص يتبنون نفس التوجه؟
فرجل الدين كمثال في أي ديانة فهو عندما يلقب نفسه بمبشر أو داعية فهذا لا يعني أن عمله نشر ديانته مع معتنقيها، فهم أصلاً يعتنقون نفس المعتقد ويؤمنون بما هو على صدد نشره فما الفائدة؟ وهنا لا يسمى بمبشر لديانته ويمكنك تلقيبه بأي صفة إلا شخص يدعو للأمر المطروح فتأكيد الفكرة لمن هم في الأساس يعملون بها يختلف تمامًا عن نشرها مع من هم لا يعملون بها فالصعوبة تكمن هنا فالمبشر لن يلاقي الشكر الذي يجده عند جماعته عندما يقرأ لهم بعض النصوص ويقول لهم هذا هو الدليل بل عليه العمل على الوصول للب تفكيرهم وإقناعهم بنجاعة ديانته وهذا في الأصل علم يدعى بعلم مقارنة الأديان والعالم في هذا العلم المسلم أو المسيحي أو اليهودي أو البوذي فهو لا يجلس في المسجد أو الكنيسة وينتظر من هم لا يعتنقون دينه ليأتوا بل هو من يتوجه نحوهم فالجلوس في المسجد يعني أن كل الوجوه التي سوف تلتقيها هناك هي أصلاً مسلمة فكيف ستدعوها للإسلام؟
ونفس الشيء بالنسبة للمستعمل لهذا الفضاء الأزرق الذي إستحوذ على حياة قرابة مليارين من البشر الذي يثم فيه إرسال ملايين الرسائل ونشر ملايين المنشورات يوميًا ما يعد أكبر منطقة للتجمع البشري في العالم ولا تضاهيه منطقة أخرى.. لكن مشكلته هو وضعك في منطقة الأمان حتى ولو بدون رغبة منك فالفيسبوك مبرمج أساسًا ليجعلك تبقى داخله لأطول وقت ممكن، للتأكد أحظر حساب شخص تعتقد أنه مختلف تمامًا عنك في المواضيع التي تهمك وتهمه وفي نوعية الأشخاص والصفحات التي يتابعها كلاكما وستجد أنك سوف تستغرق أقل من ربع الوقت التي أنت متعود على قضائه باستعمال حسابك ببساطة لأنك خرجت من منطقة الأمان الخاصة بك وكأنك غريب في دولة أجنبية.
أغلب المؤثرين والمفكرين ومن هم ذو رأي عبارة عن مجموعات مغلقة تحاور نفسها وتظن أنها تنشر الوعي فربما الواقع يتلخص في أن الطيور على أشكالها تقع |
فالفيسبوك يمتاز بعدم شموليته في إيصال الفكرة للأصقاع الأخرى التي تختلف معك في التوجه ومع أنني أرى هذه النقطة عبارة عن نقطة ضعف في فيسبوك لكن إدارة تسيير الموقع حولتها إلى نقط قوة وهي التي جعلته في المقدمة، بسبب أن الإنسان المعاصر وأنا لا أستثني أحدًا متقوقع فكريًا ويأبى الخروج من منطقة الأمان الخاصة به لهذا هو يريد البقاء في دائرته التي تشاركه نفس التفكير حتى ولو دون رغبة منه فتجد أن نقطة ضعف هذا الفضاء في إيصال المعلومة بطريقة شاملة هي نقطة قوة في تحقيق الأرباح وبالطبع أنت تعلم عالمنا كيف سيسير عندما تكون هناك أرباح فلن يهمهم الأمر وهذا هو الواقع بل حتى قائمة الأشخاص الذين يقترحهم لك فيسبوك تكون قائمة على عدة نقاط أهمها الاهتمامات المشتركة فلا تتوقع أن يخرج لك شخص يميني وأنت يساري أو العكس.
وفي سنة 2014 اقترح أحد الأساتذة على شخص أن يجعل موضوع رسالة الماستر هي الدعوة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفعلا تحمس كثيرًا للموضوع منخدعا بفكرة التجديد والتكنولوجيا وغيرها من مظاهر البريق الذي يحاط بهذا العالم فبدأ متابعة صفحات ومناشير وتغريدات بعض الدعاة فخلص لخلاصة هامة وهي أن هذه الوسائل ما هي إلا أدوات تحييد وتلهية لشرائح كبيرة وما تصنعه من وهم أكبر مما تضيفه ثم عدل عن الموضوع لأنه وجد وأدرك أن الاشكالية التي يجب أن تدرس تتجاوز ما يتوفر لديه من معطيات وقدرات حينها وهي كيف يتحول هذا الفضاء لوسيلة تحييد بعض الأصوات وإتاحة المجال لتوجهات أخرى للهيمنة على وسائل صناعة الرأي الحقيقية الإعلام السمعي البصري والمكتوب وبدرجة ما الإذاعي والدعاية الإعلانية وغيرها.. بسبب محدودية الجمهور وقلة الأثر الإعلامي والتوجيه الخارجي المبرمج والآلي وصناعة الجماعات المتجانسة التي تقلل الانتشار والاختصار الشديد المخل بالأفكار والقيم.. إلخ. طبعا لا ينفي هذا ما يمكن انجازه عن طريق هذه الوسائل لكنه لا يصنع رأي عام حقيقي خارج عن إرادة من يسيطر على الوسائل المنشورة فيها.
فمجموعات المعارضة في الفيسبوك أغلب أعضائها هم من المعارضة وأغلب مجموعات المولات أغلب أعضائها كذلك من المولات والفارق كبير بين مجموع الأعضاء ما يعني تخبط الرأي مهما كانت حجته فهو يبقى يدور في حلقة لا نهائية ومفرغة قد يتخللها فراغ وتدخل فيه فكرة معاكسة له وقد تبقى حلقة مغلقة للأبد يراها فقط من هم أصلاً يضعون أفكارهم في نفس الحلقة وسيصبح الأمر مشابهًا لمثال الداعية الذي درس علم مقارنة الأديان لكنه يجلس في مسجده ولا يخرج منه ينتظر أن يأتي أحد يخالفه ليناقشه فلهذا أفضل وسيلة لكسر هذه الحلقة هي عدم تصديق مجموعة الأصدقاء أو الأعضاء في المجموعات بل يجب عليك التحرك والدخول في وسط الرأي المخالف الذي سيكون هو أيضًا متجهًا نحوك أو استعمل إعلانات فيسبوك.
فالآن أغلب المؤثرين والمفكرين ومن هم ذو رأي عبارة عن مجموعات مغلقة تحاور نفسها وتظن أنها تنشر الوعي فربما الواقع يتلخص في أن الطيور على أشكالها تقع وأن الناشر لم يكن ليجتمع ولم يكن ليتابع شخص ما إلا لكثرة الأفكار والمواقف التي تجمعهما لهذا نحن نكتب لنا ثم نعجب بما كتبنا ثم نتقاسمه بيننا فنقرؤه ثم نعلق عليه مدحا وإطراءا ولا أحد يصل إلى الآخر. فكل ذي عقيدة وقناعة يبحث عن أمثاله بل هم يبحثون عنه فيلتقي الجميع في فضاء مفتوح ينغلقون فيه على أنفسهم يخاصمون الآخر وينتقدونه ويكتبون ما يرونه توعية له بينما هو في قوقعة مجاورة يمارس طقوس فريقه المختلفة عن الفريق الذي أنت منه.
وقبل مدة قصيرة حدث أنه عدت للاتصال بحساب الفيسبوك الخاص بي القديم لأجد أن الشبكة الاجتماعية له تكبر لكن في اتجاه واحد.. الجميع يشاركونك الرأي الجميع يعلق بأنه معك حق وأنت بدورك تعلق أنهم على حق وفكرت ماذا عندما ألتقي في الواقع مع شخص من الطرف المقابل وعلمت أنني سأشعر أنه آتٍ من الفضاء حتى أنني صرت أخشى أن أقع في موقف يكشف زيف حججي أو هشاشتها على فرض أن الطرف الآخر محق.
وهذا الأمر ليس جديد وليس اكتشافي بل معروف لدى الجميع لكن لا أحد يرغب بالتحدث عنه والسبب كما ذكرت بل الكثير من المنصات الأجنبية عملت على استغلال حلقة الفيسبوك وجعلت فكرتها الأساسية المشاركة الجماعية للمنشورات وأشهرها هناك تويتر وموقع وتطبيق minds وmedium وmethinks وغيرها الكثير التي أنصحكم شخصيًا بها، فمع أن الاعجابات والتفاعل في الفيسبوك قد تبدوا للكثير نقطة تعبر عن نجاعة وصدق ما هو منشور إلا أنه في الحقيقة يعني أن نفس الأشخاص الذين يميلون للأمر ذاته أعجبهم المنشور ولا يعبر عن الجميع بأرائهم المختلفة فنحن نشكل جزرا افتراضية منفصلة وليس فضاءا افتراضيا متفاعلًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.