نحو إعادة انتاج وتوزيع النماذح الاستعمارية بصبغتها الجديدة، وتأثيت برامج طغمها المتسيّدة على الإنسانية بالقهر والخذلان والحرمان، سارع الغرب إلى تأمين مصالحه بالمنطقة العربية، بعد موجات الانتفاضات الشعبية ضد الأوهام الوطنية، بدفع المنطقة العربية نحو مزيد من الحظائر الديكتاتورية واستحقاقات إستعجالية لوأد التجارب الديمقراطية الناشئة، بعض تلك "الإنجازات العظيمة" لأصحاب المأثورات الثورية والمعاجم الديكتاتورية، تراجع مستويات الحريات الشخصية وانعدام الممارسات الديمقراطية الرشيدة إلى ما دون الصفر، ولنقل أنّ الديمقراطية الشعبية بمنظورها الاجتماعي تكاد لا تجد ملاذات سياسية آمنة وحواضن اجتماعية جاهزة، بسبب الحملات المنظمة والتلاعبات الممنهجة بآلياتها ودورها في خلق نظام حكم متوازن يقوم على خدمة الإنسان والدولة.
فلو نظرنا إلى التجارب العربية كنماذج تاريخية ما زالت تستهلك مشاريع تحررية وتنموية لتعزيز الديمقراطية، لوجدنا أنّ الحركة الثورية العربية بغية استكمال استقلالها الوطني الحقيقي، واجهتها تحديات اجتماعية هوياتية ورغبات سياسية من مجموعات العمل الدولية والتدخلات الاستعمارية المقننة، بصرف النظر عن النزعة الأيديولوجية السلبية الأكثر فتكا وتدميرا لأي فعل تحرري مؤسساتي أو عملية تغيير تشاركية، للحفاظ على ما تبقى من أساسات وهياكل مؤسسات الدولة لعتقها من سطوة الدولة العميقة؛ هل تصورنا حجم "الكارثة الأخلاقية" التي يمكن أن تقع بسبب طموحات ذاتية تعادي السلم الاجتماعي والأمن الوطني، في وقت لم تتخلّص المنظومة القانونية الدولية من طموحاتها الاستعمارية، بالتنصل عن "القيم الانسانية" الرافضة للاعتراف بالاستبداد لضمان مصالحها؟
عندما تتكفل الجماهير باحتلال الشوارع والميادين، وتحاول من خلالها بعث روح مدنية جديدة للفضاءات العامة، مثلما شهده الحراك الجزائري فإنها لا تنافس السلطة على حق الملكية العامة فحسب، بل على شعور جمعي "برأسملة الأصوات" الصامتة وتحريرها من الخطابات السادية |
فالحفاظ على التدفقات التجارية والثروات الطبيعة ضرورة تاريخية لاستمرارية أيّ نظام دأب على الاستماتة من أجل الحكم بالذلة والخذلان، لذلك نجد أنّ عملية "تصفية القضايا الجوهرية" لثورة شعبية تتجسد في الحرية والعدالة وحقوق الانسان، والتي تعد أهم الأساسات للبناء الحضاري "لأخلقة مؤسساتية" تحفظ الهوية القانونية للدولة، لا لصياغة مشابهة للبنى الفوقية والأرضيات المحفزة لإعادة إنتاج النماذج الفاشية المتمسكة بشرعيتها التاريخية وخطاباتها الشوفينية، ما تلبث حتى تتلبسها تأويلات الهيمنة الغربية وإشكالات منهاضة الإرهاب وأسعار الثورة المتذبذبة، عبر تطويعها للقيم الانسانية والممارسات الحضارية بقوانين تسلب الحياة الثورية نفَسَها التحرري، فخصوم الديمقراطية الواعون يدركون أنّ إنتاج ديكتاتوريات مستدامة ضرورة أخلاقية لاستدعاء النيوليبرالية الاستعمارية.
من الصعب تحديد الصورة النهائية لأيّ تحرك جماهيري، نزل للشارع كي يستعيد ما سلبه إياه النظام القائم على تدوير ديمقراطية هزيلة تجنح للفساد والتزوير، فتجمّع الجماهير المنتفضة ضد الطغيان وأشكال الاستبداد في الميادين والشوارع عبر مسيرات مختلفة، تصنع لثورتها أرضية ملائمة كفعل أولي على الحراكيين تجسيده والحفاظ على استمراريته، فلو نظرنا إلى المدن كيف أصبحت أرضا خصبة للاحتجاجات والانتفضات ضد هيمنة إمبراطوريات المال والإعلام والسياسة، وتمحصنا كيف أنّ المدينة بوصفها نتاج حضارة إنسانية متداولة تقاوم ذلك المد الاخطوبوطي للتحولات الجذرية المتخلّية عن القيم الانسانية والارتباطات الاجتماعية، لوجدنا أنّ الهياكل المؤسِسة للمنتجعات التجارية والسكنات الإدارية والعلاقات الإقطاعية، باتت خطرا محذقا يتربص بأيّ حرارك من شأنه أن ينازع النظام السائد، فالبحث عن "أرضية مشتركة" متماسكة بين شركاء الاحتجاجات كفيل بصد الخروقات السلطوية، التي تحول بين تحويل الثورة كسلعة محتكرة يتم التنازل عنها بالتفاوض.
وعندما تتكفل الجماهير باحتلال الشوارع والميادين، وتحاول من خلالها بعث روح مدنية جديدة للفضاءات العامة، مثلما شهده الحراك الجزائري فإنها لا تنافس السلطة على حق الملكية العامة فحسب، بل على شعور جمعي "برأسملة الأصوات" الصامتة وتحريرها من الخطابات السادية، فتخلي الثوار عن دورهم الأساسي في إدراك الخرائط الادارية والاجتماعية التي من خلالها يتجذر النظام والدولة العميقة، وإهمالهم حمل "الرغبة الثورية" إلى شوارع المكاتب المنسية وأقبية الموارد البشرية والمناقصات السكنية، وتناسيهم كتابة لحظات البروليتارية بجداريات وأرواق 51 بالمئة، يجهض كل محاولة تحررية إصلاحية لشق طريق آمن نحو جمهورية جديدة، الأمر الذي يأذن بعزوف الكثلة الجماهيرية عن الشعارات الحالمة والإنسانية المتوهمة، بمجرد انقطاع احتياجات الفرد اليومية من خبز وحليب وغيرها من ضروريات "الأغلبية الصامتة"، والتي تقف الحرية والعدالة عن توفيرها عاجزة، فالنزول إلى الشارع تعبيرا عن حالة الرفض الشعبية، يواري الدوافع الاجتماعية والاقتصادية للمتظاهرين كي يترك حقوقها الأساسية تتبناها شخصيات شعبوية، حينها يراوغ النظام وأبناؤه البررة في خلق "رشى اجتماعية" لمتطلبات المراحل الانتقالية، فتصبح الأرضيات المشتركة حقلا للنزاعات الذاتية وسعيا وراء ديمقراطية تملؤها تصدعات أخلاقية، تنافي كليا ما سعت إليه الجماهير لتحقيق عدالة اجتماعية وحقوق إنسانية بعد استعادتها للميادين.
حينما بدأ الحراكيون بترديد بعض الأسماء لشخصيات الثورة الجزائرية، تبادر للكثيرين أنّ مجتمعا متنوعا يملك خصوصية فريدة عن تلك التي روجتها وسائل إعلام النظام، انبثق من لدن مجده الثوري المناهض للتبعية الاستعمارية، فقد اعتاد النظام على تسفيه وتمييع الحقائق التاريخية والاجتماعية لجبهات العمل الوطني، فلم يترك مجالا "للعقول الاصلاحية" كي تحقق ما تصبوا إليه من عدالة اقتصادية تشمل "مجتمعات الظل"، إلى جانب استقرار سياسي يحفظ مرافق الجمهورية من الانهيار المفاجىء، فالساحات جمعت الطبيب والحرفي والسياسي والإداري والأستاذ والطالب ورجال الدين والمقاولين والعاطلين، وغيرها من تكتلات اجتماعية عانت بسبب الموازنات الطبقية التي أنتجها وأنماها النظام، فراح كل فرد من تلك المجموعة يثبت أهليته بوطنيته وسط الحراك مؤسسا لعمل جمعي يتشارك المجتمع الحراكي في بلورته، مكتفيا بما ابتدأته الجماهير من نضال يرسم طريقا مغايرا عن ما برع به النظام طيلة حكمه، وبدل أن تنصاع الحشود لقوى الاستغلال المتراكمة عبر السطو الهوياتي والانقلاب الثقافي، تعاهد الشعب كقوة جماهيرية لرأب التصدعات الناجمة عن شراء الذمم للجم التمثيل الحقيقي للحراك الجزائري، متحللا من زيف البورجوازية الحراكية المنبثقة عن الأحزاب التعاونية والنقابات المقاولاتية، لخلق "نموذح ثوري" يزاحم ما حققته "العملية الديمقراطية" في إعادة إنتاج نظام متملك ومتكيف ومهادن، يؤمم المطالب الشعبية المستعصية على جبهة الحراك، من أولئك الذين اكتفوا بالصراخ بدل "ترشيد الثورة".
في الثاني عشر من كانون الأول 2019 اختير رئيس جديد للجمهورية الجزائرية، عبر انتخابات شهدت "منافسة ديمقراطية" أحيطت بها دعوات للمقاطعة، في اليوم التالي تم تنصيب رئيس الجمهورية الجزائرية الجديدة، داعيا عند قسمه لاحترام الدستور والعمل على تنفيذ "مطالب الحراك"، أتمت السطة دورتها في إعادة "صياغة المنتجات التاريخية" لنظامها، مستغلة الوسائل الديمقراطية الممكنة لتجريد الحراكيين من استغلال "الطابع الاصلاحي" لصنع نموذج شعبي لا يملك الأدوات اللازمة لمدافعة ما ترتكبه السلطة من تهديد "للعمل الديمقراطي الاجتماعي" عبر تبادلات إدارية وقانونية وقضائية، نتذكر المظاهرات المختلفة التي اعتلت منصات التواصل، والدعوات المحرضة على العصيان المدني، وتهافت النقابات وتحريف المطالب الاصلاحية السياسية إلى تعاونيات مستوطنة، ليصطدم الحراكيون بواقع لا يعترف بالديمقراطية والعدالة والحرية على أنها ضرورات أخلاقية قبل أن تكون سياسية، إذ لا يمكن تحرير رأسمال ثورة شعبية في ظل تخلينا الجزئي عن الحقوق الانسانية للمجموعات المنتفضة؛ تمسك النظام بالطريق السلمي والديمقراطي كي يمنح لنفسه صورة جديدة، وسط تحديات دولية لا نملك تجاهها جبهة داخلية متوازنة لصد تدخلاتها السياسية المستفزة، كما أنّ الحراك وإن تأخر في إبراز مندوبين أو ممثلين عنه، واكتفى بهويته الحراكية الاجتماعية، إلا أنه استطاع أن يمنح المتظاهرين "حقا ثوريا" في التعبير عن المطالب الانسانية والحياتية، أما الاكتفاء بسرد الصور والحكايات وتبادل الخطى، فهو تبديد للرغبة الحقيقية في تغيير الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والأخلاقي.
استقبل الحراك الجزائري ذكراه الأولى يوم السبت الموافق للثاني والعشرون من فبراير 2020، مجددا رفضه استخدام الوسائل الكلاسيكية والعنيفة للتغيير الجذري، ومتسمكا بعدم اعترافه بالأدوات الديمقراطية المستخذمة من النظام وشرعيته، في تناقض يعيد للذهنية العربية حجم المآسي والمعاناة التي اعتلت عملية التغيير بداية الربيع العربي، والمآلات المخزية للحركات الثورية المناهضة للاستبداد وتسابقها نحو التماهي مع المد الصهيوني في الحاضنة العربية والأفريقية؛ مع أنّ التناقضات التي تتوارى خلف صور ثورية زائفة تكاد تحجب الرؤية الحقيقية لخروج الآلاف من الجزائريين الرافضين للأوضاع المعيشية الكارثية، إلى جانب عزوف الحراكيين عن استحداث طرق أكثر فاعلية بوسائل إدارية ناجعة تسمح بإعادة "النفَس الوطني" داخل المجتمعات المهيكلة، إلا أنّ استعراض القوة الجماهيرية واستحسان فعلها الشعبوي سيأخذنا إلى طريق مسدود، تتبدد من خلاله ليس مسيرة عام من الحراك الجزائري فحسب، بل بحلم الشعوب التواقة إلى الحرية والعدالة والكرامة الانسانية، فمسيرة الحراك الجزائري إنما هي صفحة ثورية في سجل الانسانية المفعم بالخيبات والخذلان الشعبي، التي لم تكتمل معالمها بعد بسبب عدم مكاشفة الحراكيين لذواتهم ومجتمعهم، ومنح السلطة القائمة تأميم الخطاب الإصلاحي الذي يلتحق بقائمة المشاريع التنموية الوطنية، ونحن نقف مختصمين على تاريخ "لحظة مفصلية" شاء لها أن ترسم لنا طريقا نحو خلاصنا وتحررنا، كما بدأنــــا أوّل الحـــراك نعيــــــده.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.