على مدى سنوات حسب قراءاتي ومتابعاتي كنتُ أعتقد بأن سياسات البنك الدولي تعمل لخدمة النظام العالمي الجديد استنادا لأساليب كنا نعتقد أيضا أننا نعلمها جيدا، حيث يقوم البنك الدولي بإقراض الدول الفقيرة والمتعثرة لأجل التنمية بالفعل، لكنه مع ذلك يفرض على هذه الدول سياساته النقدية والاقتصادية التي تخدم عادة النُظُم الحاكمة بتلك الدول وتكون مجحفة وضد مصالح شعوب هذه الدول بشكل واضح، كما أننا أقصى ما كنا نعتقده هو أن سياسات البنك الدولي غالبا ما تخدم الشركات متعددة الجنسيات.
هذه أشهر اعتقاداتنا حول سياسات البنك الدولي تجاه الدول المقترضة، وبينما يصور لنا الأخير بأنه يُقرض تلك البلدان الفقيرة بقصد التنمية، إلا أنه ومن خلال شروط غريبة نجده وكأنه يهدف بالدرجة الأساس لإخضاع وإذلال شعوب هذه البلدان لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية وسياساتهما تجاه المنطقة وخاصة سياساتهما تجاه دعم كلا من الأنظمة الدكتاتورية في هذه البلدان ودعم دولة الكيان الصهيوني، هذا ما كان وما زال يخبرنا به واقع الحال.
هناك دراسات تقول بأن معدلات البطالة والفقر ومن ثم الجريمة زادت في تلك البلدان التي اعتمدت في تغذية ميزانياتها العمومية على قروض من البنك الدولي، هذا يتفق تماما مع اعتقاد قديم أيضا ما زال سائداً بين شعوب المنطقة العربية، وهو أن على هذه الشعوب أن تبقى غارقة في الفقر والتخلف والبطالة والجريمة كي تحيى دولة الكيان الصهيوني بأمن وسلام دائمين، اليوم بات يصبح هذا الإعتقاد أكثر واقعية خاصة بعد خروج مثل هذه الدراسات إلى العلن مؤخرا.
كما أنه باتت تتكشف حقائق مرعبة حول مؤسسة البنك الدولي الغريبة هذه، تفيد بأن البنك تحول من مؤسسة صغيرة إلى قوة عالمية عظمى في مجال المال والإقراض، وأن هذه القوة تطورت بشكل سريع وغريب جعلت البنك في النهاية يتحكم في أصغر خيارات شعوب البلدان المقترضة، ومحاولة محو سيادتها، وتحوَّل البنك في معظم الأحيان لأن يكونَ وصيا على اقتصاداتها، وأن يَفرض رقابة وقحة على نفقاتها العامة وأن يتحكم كذلك بأولويات هذه النفقات، مثل إجبار تلك البلدان على رفع الدعم عن المحروقات والخبز والسلع الأساسية وتعويم العملة وما إلى ذلك من سياسات غريبة ومجحفة بحق الشعوب تهدف بشكل أساسي إلى القضاء على القطاع العام في هذه البلدان، كما أن البنك بات يتحكم مؤخرا بمسألة تعيين الوزراء ورؤساء الحومات وقوانين الإنتخاب والأحزاب ودعم الشواذ وإلى ذلك من أمور قد تبدوا في غاية الغرابة على شعوب المنطقة.
لكن الأغرب من هذا كله عزيزي القارئ هو ما تكشَّف مؤخرا حول هذه المؤسسة الغريبة المسماة، البنك الدولي، حين ظهرت للعلن دراسة قام بها ثلاثة من الباحثين أحدهم من النرويج والثاني من الدانمارك والثالث خبير سابق في البنك الدولي، حيث تركز البحث حول علاقة القروض التي يقدمها البنك الدولي إلى البلدان النامية والفقيرة بحجم التدفقات المصرفية في تلك البلدان.
ومن هذه النتائج الغريبة التي خلص إليها البحث أنه كان هناك علاقة طردية بين توقيت تسليم هذه القروض من البنك الدولي لحكومات هذه البلدان وزيادة التحويلات البنكية إلى حسابات مصرفية تَستَخدم ما يسمى بالملاذات الآمنة التي غالبا ما تخدم حسابات كبار المسؤولين والمتنفذين في هذه البلدان، ومن هذه الدول التي توفر تلك الملاذات المصرفية الآمنة لأمثال هؤلاء الفاسدين المتنفذين هي، سويسرا ولوكسنبورغ، فقد وَجد البحث أن هذه التحويلات تتضعاف لثلاث أو أربع مرات بعد وصول تحويلات قروض البنك الدولي مباشرة إلى حكومات البلدان الفقيرة والمتخلفة.
هذا يعزز اعتقاداتنا القديمة التي كانت تقول بأن القروض التي تصل من البنك الدولي إلى حكومات هذه الدول ومن ضمنها الدول العربية والتي يرافقها بالضرورة إجراءات تقشفية صعبة، غالبا ما يذهب جُلها إلى حسابات المسؤولين والرؤساء والمتنفذين والمقربين منهم في المصارف الخارجية التي توفر تلك الملاذات الآمنة، بينما ترزح شعوبهم تحت خط الفقر ويكافح معظمها في الحصول على حاجياته الأساسية لكن ودون جدوى مع ذلك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.