بعد العدوان الغاشم المُتعمّد على موقع عسكريّ تركيّ في شمال سورية، واستشهاد 33 بطلاً من أحفاد آل عثمان تقبلهم الله تعالى، مع بعض إخوانهم من المجاهدين السوريين، حيث اختلط الدم السوري والتركي الزكيين في ملحمة رائعة، تُعيد للأذهان أحداث وحيثيات معركة "جناق قلعة" البطوليّة، التي حملتْ روح الرابطة والأخوّة الإسلاميّة، دون علائق أخرى تُعكّر صفاء هذه الرابطة، وتُوهن متانتها، فلم تُميز بين الأعراق والجنسيات والأقوام، بل وَحّدتْ تلك الملل والنحل، في عقد فريد تربطهم سلسلة "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
لقد حمل تبعات هذا العدوان الآثم على الموقع التركي في إدلب كلٌّ من النظام الأسدي المجرم، وحليفه المحتل الروسي، والخطأ في هذا الاستهداف بريء من نوايا كِلا المجرمَين بوتين وبشار، فخسارة "سراقب" وما حولها من القرى الاستراتيجية في الشمال السوري، على يد الجيش الوطني السوري بدعم الجيش التركي، جعلتْ أعداء الشعب السوري (بوتين والأسد) يستشيطون غضباً وجنوناً وإجراماً، ما دعاهم إلى الغدر بكومة من الاتفاقيات الدولية بين روسيا والقيادة التركية، ضاربين بها عرض الحائط.
بعد أحداث هذه الفاجعة الأليمة التي أوجعتْ قلوب السوريين قبل قلوب الأخوة الأتراك، قامت قوات الجيش التركي بشنّ هجوم عسكري عنيف على مواقع نظام الأسد، لم تشهده سورية منذ بداية الثورة، وعندما رأتْ تركيا الردود الأوروبيّة مُقتصرة على التعازي والمواساة دون المبادرة بأيّ دعم فعليّ على الأرض، لصدّ هذا الهجوم على البلد العضو الفعّال في حلف "النيتو" تركيا، من نظام مُتهالك لا يستطيع حماية نفسه فضلاً عن احتلال قرية أو تحريرها، إلا بدعم روسي إيراني منقطع النظير.
ألقى السيد "أردوغان" ورقته الرابحة، وهي اللاجئين في بلاده، فتركيا تُعتبر خزاناً بشرياً للاجئين القادمين من دول شتّى، كما تُعدّ بوابة الشرق إلى الغرب، وسدّاً منيعاً بينهما، فأصدر الرئيس التركي أمراً بفتح الحدود أمام حركة الهجرة واللجوء إلى أوروبا، وما أن رُفع القيد عن اللاجئين، وفَتحتْ السلطاتُ التركيّة الأبواب أمام هؤلاء الحالمين بالحريّة والحياة الكريمة، حتى تهافت الآلاف من المهاجرين إلى النقاط الحدوديّة التركيّة، رغبة باللجوء إلى البلاد الأوروبيّة.
كما أسلفتُ أنّ تركيا خزّاناً بشرياً كبيراً للاجئين من بلاد عدّة، لا يقتصر على بلد واحد دون غيره، فالراغبين باللجوء إلى بلاد الغرب من جنسيات مختلفة، فتركيا تحتضن لاجئين من العراق واليمن وفلسطين وسورية وأفغانستان وإيران ومصر والسودان وطاجكستان وتركستان الشرقية وليبيا وباكستان والهند والكثير من الدول الأسيويّة الفقيرة، أو المحكومة من حكّام ظلمة مُستبدين، أو التي تعيش في نار الحروب والفتن. أمّا بالنسبة لأصناف اللاجئين السوريين الراغبين في الخروج من تركيا فهم:
أولاً الفقراء الهاربين من الموت
الذين لاذوا إلى تركيا بعدما عانوا مرارة الحياة وقسوتها خلال عشر سنوات مضتْ، فسعوا في البحث عن عمل شريف في تركيا، حتى يعفّوا نفوسهم ولا يمدّوا أيدهم للتسوّل والذلّ، فما وجدوا ما يسدّ جوعهم، ويستر حالهم، فلم يجدوا سبيلاً إلا تجريب حياة بعيدة عن الحرب والجوع والتشرّد في أوروبا.
ثانياً الفارين من كابوس (الكيمليك)
ومنهم الذين ذاقوا الأمرّين بين الولايات التركيّة، بسبب قيود الإقامة "الكمليك"، فهذا أكبر كابوس يواجه اللاجئ السوري في تركيا، حيث لا يحقّ له التجول في الولايات التركية إلا بإذن، يسبقه طلب رسمي، مبني على سبب مقبول لدى دائرة الهجرة، لذلك فإنّ بحث اللاجئ عن عمل يجب أن يكون في ضمن الولاية التي حصل منها على الإقامة فقط، والحاصل أنّه يعيش في حبس حقيقي.
ثالثاً أتباع النظام السوري
ليس كلّ اللاجئين في تركيا مؤيداً للثورة السوريّة، فهناك الكثير من الموالين للنظام الأسدي المجرم ومن طائفته أيضاً، ولكنّهم لا يرغبون في البقاء في بلد أصبحت كالجحيم من الحروب والفقر وهيمنة عائلة الأسد على جميع أبناء طائفته، وقسوة الحياة الأمنيّة كما يدّعون.
رابعاً عملاء النظام
الذين يتغلغلون بين المعارضين السوريين في تركيا، فهم بمثابة الجواسيس للنظام، يجمعون المعلومات اللازمة عن أوضاع الثوار والمجاهدين السوريين وعائلاتهم في تركيا، ومنهم المثبّطين الذين يزرعون الشؤم والإرجاف واليأس في نفوس أبناء الثورة السوريّة، ويبثّون الفتنة بين صفوفهم، وأيضاً منهم المشوِهين لحال السوريين وصورتهم في الولايات التركية بأيّ وسيلة كانت، ومنهم من كان يلعب دوراً مهماً في تفخيخ العلاقات بين اللاجئين السوريين والأخوة الأتراك.
خامساً عبّاد المال
هناك في تركيا فئة قليلة من السوريين الذين همهم في الدنيا الليرة والدولار، فلا تهمهم السياسة والأوطان، ولا الظالم أو المظلوم، فرُوحه مُعلّقة بما يربحه شهرياً ويعمر جيبه، فمن هؤلاء من يُوالِ المعارضة، أو النظام، أو كليهما حسب المصلحة، فيميل كيفما مالتْ مصلحته وربحتْ تجارته وزادت أعماله، فتراه كمكوك الحائك متنقّلاً كلّ أسبوع بين دمشق واستانبول، وليس لديه أيّ مُشكلة مع النظام، وعندما وجد الباب مفتوحاً ومتاحاً أمام أوروبا لم يُقصّر في ذلك، فحتماً ستثمر تجارته أكثر في بلاد الغرب.
سادساً الباحثين عن جواز سفر
وهم الذين يحلمون بوطن وجنسيّة وجواز سفر يحفظ لهم كرامتهم، بعدما تاجر النظام السوري الظالم بقضيّة جوازات السفر، حتى بات الجواز السوري الأغلى والأسوء في العالم، فالمهاجر يريد الحصول على جواز فقط، ثمّ يعود إلى أيّ بلد مسلم أو عربي ليكون مُعززاً مُكرّماً، فطالما يحمل الجنسيّة السوريّة سيُنظر إليه على أنّه شخص ناقص منبوذ.
سابعاً الجيل المحروم
علينا ألّا ننسى أنّ المعاناة السوريّة تُعدُّ من أكبر المآسي الإنسانيّة عبر التاريخ، وهذه المأساة شملتْ العامل الثقافي والإنساني، فخلّفتْ جيلاً كاملاً في سورية نشأ في الجهل والخوف والجوع والتشرّد والحرمان والقتل، فهل نُكلّف هؤلاء بأشياء لم يعرفوها خلال حياتهم كحب الوطن والتعلق به؟! فهمهم الآن في هجرتهم الأمان والحياة والحرية، أمّا رابطة الدين والوطن والقرابة فهي ضعيفة نوعاً ما تحتاج للاكتساب والتعلم والمجتمع المحيط، ولن يحصل عليها إلا بوجود الحياة الآمنة.
ثامناً إعالة الأهل
إنّ شعبنا السوري يرزح في حياة بائسة مزرية، سواء في مناطق النظام المجرم، أو في الشمال المحرر، فيعيش في ضيق لا يعلم فيه إلا من يقاسيه، فالذين يقبعون في مناطق النظام، يُهرّبون أولادهم إلى أوروبا ليعملوا ويسلموا ويرسلوا لعوائلهم ما يعيلهم ويكفيهم من ضرورات الحياة، وكذلك ليهربوا من الخدمة العسكرية عند النظام. وبعض الذين يعيشون في المحرر يرسلون أبنائهم إلى بلاد الغرب لإعانتهم في المصروف كذلك، أو لدعم الثوار، نظراً لضيق الحال والقلّة التي يعيشها الشعب في كلا المنطقتين، ويُعدُّ الذين في المناطق المحررة أيسر حال بالنسبة لمن يعيش في ظلّ مناطق النظام.
لقد خرجتْ اليوم بعض الأصواتٌ من تركيا، أطلقتْ التهم جُزافاً على الشعب السوري، فزادتْ مرارته مرارة، ومأساته مأساة أخرى، فخلطتْ بين الصالح والطالح، والمضطر والمختار، والعالم والجاهل، وعممتْ حكمها على شعب ما يزال يقاسي أبشع أنواع القسوة والتجهيل وفي كافّة المجالات، بعدما عاين كلّ أصناف الأسلحة والقهر والإجرام والخوف على يد أسوء أعداء الأمة.
وتلك التهم تجاوزت الحدود والخطوط، بقولها إنّ السوريين يهربون من الجهاد، ويتركون بلادهم خالية من المُدافعين عنها والمرابطين، وهذه تهمة ظالمة في حق مليون شهيد سوري ومثله من المعتقلين، وكذلك تهمة مجحفة لعشرات الآلاف من المجاهدين في سوريّة الآن، فهم الذين وقفوا يداً بيد مع الجنود الأتراك الكرام، وهم الذين ركّعوا روسيا وإيران ونظام الأسد المدعوم عالمياً، فإن كانت تلك الدعوة صادقة، فكيف صمدتْ الثورة السوريّة اليتيمة عشر سنوات؟!
فلولا فضل الله تعالى، ثمّ جهود أبطال سوريّة الذين ضربوا للعالم أجمع أجمل وأروع الأمثلة في الجهاد والصمود والدفاع عن شرف الأمّة الإسلاميّة جمعاء، وخائضين نيابة عنها حرباً شعواء تعجز عنها دول، ثمّ وقوف بعض الدول (ومنها تركيا) مع حقّ الشعب السوري في نيل حريته، لمَا صمدتْ ثورتنا عشر سنوات ولا أقلّ من ذلك، فلا تظلموا إخوانكم السوريين الذين يحاربون ويواجهون أعتى الجيوش الفاجرة، والأسلحة المتقدمة، وأشرس الأنظمة الفاسدة في العالم، ببندقية وثبات وشجاعة وإيمان وإصرار.
لقد فُتحتْ الدفاتر الآن ولم يبق شيء مستوراً، فمن أراد أن يعرف حقيقة العدو الأسدّي والروسي والإيراني وخبثه وإجرامه فليسأل أبطال الجيش التركي عمّا رأوه، بعدما دخلوا إلى شمال سورية، وعاينوا كلّ ما يعانيه شعبنا العظيم من إجرام كلٍّ من بشار وأسياده الروس والإيرانيين. فقبل دخول الجيش التركي سورية كانت أخبار شعبنا إمّا مُعَتّمة بعض الشيء، أو مُتضاربة نظراً لحملات التشويه والتكذيب ضدّه، أو مُبالغ فيها، والآن أصبحتْ الأمور واضحة جليّة، فكيف صمد هذا الشعب بوجه الظالم إن كان شباب سورية يهربون (كما يدعي أصحاب الفتنة)؟!
إنّ صمود الجيشين الوطني السوري والتركي على جبهات إدلب جعل العالم اليوم يقف على قدمه مذهولاً، بعدما أذاقا ميليشيات بشار وروسيا وإيران مرارة الخسارة الهزيمة والذل، فهذه الانتصارات ومن بينها تحرير "سراقب" وما حولها، وقتل المئات من جنود الميليشيات الأسديّة الروسيّة، وتدمير الكثير من المواقع والأليات والطائرات المعادية، لم يكن إلا بوحدة الجيشين السوري والتركي، الذين فهموا أنّ يد الله مع الجماعة، فإن سعتْ طبول الأعداء في الداخل والخارج، وكلمات المثبطين المرجفين، وصيحات العملاء المأجورين، وفتن الخصوم، في زرع الفتنة والفرقة بين أُخوّة الشعبين التركي والسوري، فاعلموا أنّ هؤلاء عملاء فتح الله غولن وبشار الأسد وحلفائهما الخبثاء عادوا لضرب الإرادة التركيّة والسوريّة في قمع الإرهاب في البلدين، والانتقام من قتلة الجنود الأتراك والشعب السوري البريء، ونيل الحرية المنشودة في سوريّة.
إنّ الحلّ الوحيد في وأد هذه الفتن، وصدّ هذا العدوان الداخلي قبل الخارجي، هو عدم الالتفات إلى حملات التخوين والتضليل والتثبيط، وكشف أعمال الخيانة والنفاق ومعاول الشقاق، والاعتصام بكلام الله تعالى وحبله المتين، وتوحيد الصفوف في سورية وتركيا، فالحروب في سورية والعيون على تركيا، فتحرير سورية يعني رفع شأن تركيا عالمياً، وتصاعد أسهمها، ومتانة موقفها، والدفاع عن تركيا وسوريّة هو دفاع عن الأمّة الإسلامية جمعاء، فأسكتوا المرجفين بتحرير بلاد المسلمين، فالانتصارات اليوم والفتوحات العظمى تنتظرنا.
وعلينا ألّا نحيد عن إرشادات كلام ربنا عز وجل: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إنّ الله مع الصابرين)، فذلك هو اللاجم الوحيد لسموم تلك الألسنة والفتن والأراجيف، فليفهم ذلك من يدعي حبّ تركيا، ويطعن بالسوريين الشرفاء، ويفتري عليهم، وينكر جهادهم، وإلا سيأتي يوم يقولون فيه: أُكلنا يوم أُكلَ الثور الأبيض.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.