عندما أدى السيد ترامب اليمين الدستورية رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية في العشرين من يناير سنة 2017 لم يخطر ببال الكثيرين أن الرئيس الجديد سيكون ظاهرة تستحق الوقوف. دونالد ترامب الذي يعتبر أكثر الرؤساء الأمريكان إثارة للجدل ما فتأ ومنذ توليه السلطة في كل مرة يخرج على العالم بتصريح أو حدث يبقيه تحت الأضواء، حتى أصبح حب السلطة والشهرة والأضواء والمال يوصف بالظاهرة الترامبية. فمن رئيس منظمة ملكة جمال الكون ثم دخوله عالم المصارعة وقاعة المشاهير وحلاقة شعر فينس ماكمان رئيس اتحاد المصارعة WWF مرورا بكونه وجبة دسمة للكوميديين ولأفلام الكرتون والكراتوريين الى رئيس للولايات المتحدة.
في الحقيقة فان المتتبع لمسيرة حياة الرجل يستطيع أن يلاحظ بوضوح أن الرجل مهووس بحب الأضواء، الشهرة، المال، من هذه الزاوية نستطيع أن نفهم الكثير من تصرفات ترامب الغريبة والخارجة عن المألوف فالرجل داخليا خلال الفترة الأولى لرئاسته وبذريعة المخاوف الأمنية حظر مواطني العديد من البلدان ذات الغالبية الإسلامية دون مبررات واضحة من الدخول إلى الولايات المتحدة ليتراجع بعد ذلك تحت ضغط محلي ودولي ويقوم بقصر القائمة على الدول الراعية للإرهاب وألغى التأمين الصحي الفردي الإجباري وسن حزمة من الضرائب على الأفراد والشركات. واستمر ترامب في التغريد خارج السرب فخارجيا انسحب من مفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادئ ومن اتفاق باريس المتعلق بتغير المناخ ومن الاتفاق النووي الإيراني واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وطرح صفقة القرن ذات السمعة السيئة وفرض رسوما جمركية على واردات الصين مما أشعل الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة.
قام دونالد ترامب بالانتقام سريعا من الشهود الرئيسيين فى قضية محاكمته، حيث أقال ألكساندر فيندمان وجوردون سوندلاند من وظائفهما بعد تبرئة مجلس الشيوخ الأمريكي للسيد ترامب في قضيتي التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية ومساعدة أوكرانيا في ذات الموضوع |
رفع ترامب شعار "أمريكا أولا" وهو على ما يبدو شعار يحمل الكثير في طياته لما يراه ترامب مستقبل أمريكا داخليا وخارجيا ، فالعنصرية والشعبوية كانا العنوانين الأبرزين لهذا الشعار فمثلا وصل ترامب إلى أدنى درجات الهُبوط عندما تطاول بشكلٍ بذيء على النائب الديمقراطي إيلايجا كامينغز، عندما اتّهمه وبسبب أُصوله الإفريقيّة بإهمال دائرته في بالتيمور ذات الأغلبيّة غير البيضاء والمَوبوءة بالجريمة والجرذان والقوارض حسب قوله. وأيضا توقيعه في 25 يناير 2017 على مرسوم بناء جدار على الحدود مع المكسيك بحيث سيشمل كل الحدود التي يتعدى طولها 3200 كلم، إضافة إلى تكلفة المشروع الباهظة التي تتراوح حسب التقديرات الأولية لكل من زعيم الحزب الجمهوري في مجلس النواب الأمريكي "بول ريان" وزعيم الحزب في مجلس الشيوخ "ميتش مككونيل" ما بين 12 و15 مليار دولار.
ووعد الرئيس "ترامب" بأن المكسيك هي التي ستدفع تكلفة بنائه عاجلا أو آجلا وليس الولايات المتحدة الأمريكية. هذا إلى جانب وعوده بتفعيل طرد أكثر من 11 مليون مهاجر سري من أمريكا اللاتينية، أغلبهم من المكسيك ومن أمريكا الوسطى، وهي دول تعتمد في اقتصادياتها بشكل كبير على تحويلات مهاجريها. ولم يربأ الرئيس الامريكي بنفسه ان يبتز المملكة العربية السعودية بشكل مهين حين تناول ما دار في مكالمة هاتفية مع الملك سلمان بن عبدالعزيز وكشف عنه الأول في لقاء حاشد، 27 أبريل/2019 قائلا"أيها الملك نحن ندافع عنك، ولديك الكثير من المال، ويجب أن تدفع مقابل ذلك".. ما اعتبره مراقبون ملخصا لحصاد علاقة الولايات المتحدة بدول الخليج عموما.
وقد عمل على استغلال الأزمة الخليجية أبشع استغلال، فالأزمة شكلت دافعا آخر -غير الابتزاز بالتهديد الإيراني- لدول الخليج نحو مزيد من سباق التسلح، الذي يصب في معظمه بخزانة شركات التصنيع الأمريكية؛ الأمر الذي سجلته بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي. فواردات السلاح الأمريكي تمثل أكثر من النصف من أسلحة السعودية والإمارات، وقطر، فيما تجاوز مجموع ما استوردته السعودية من الأسلحة من أمريكا منذ 1950 ما قيمته 90 مليار دولار، حسب تقرير لـ"واشنطن بوست". وفي هذا الإطار استغلت الولايات المتحدة قضية مقتل الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" الكاتب في صحيفة "واشنطن بوست" داخل مبنى القنصلية السعودية بإسطنبول، لتشكيل ضغط كبير على الساحة الدولية تجاه ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان"، واتجهت أصابع الاتهام إليه من وكالة المخابرات المركزية (CIA)، فيما حاول "ترامب" خلال تطرقه للجريمة لفت الانتباه إلى أهمية الدور الذي تلعبه السعودية، والإشارة إلى أنه إذا تمت تسوية الأمر وفق المصالح الأمريكية فإن نظامه لا يتحرج من العمل مع "بن سلمان" إذا كان سينتبه لتصرفاته لاحقا.
وجاء قرار "ترامب" بإرسال قوات إضافية (أكثر من 3 آلاف جندي) إلى الشرق الأوسط، وتحديدا إلى السعودية، في إطار نهج إدارته لممارسة سياسة الضغط الأقصى ضد إيران من جانب و"الحلب الأقصى" للبقرة الخليجية (حسب تعبيره في تجمع لمناصريه قبل انتخابه رئيسا) من جانب آخر، خاصة بعد الهجوم على منشأتين لشركة النفط السعودية العملاقة "أرامكو" شرقي المملكة في 14 سبتمبر/ 2019م. ومؤخرا قام دونالد ترامب بالانتقام سريعا من الشهود الرئيسيين فى قضية محاكمته، حيث أقال ألكساندر فيندمان وجوردون سوندلاند من وظائفهما بعد تبرئة مجلس الشيوخ الأمريكي للسيد ترامب في قضيتي التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية ومساعدة أوكرانيا في ذات الموضوع.
وأتساءل هل هذا هو الوجه الذي يريده السيد ترامب للولايات المتحدة؟ أن تكون عبارة عن دولة عنصرية شعبوية تطرد جيرانها وتهاجم مواطنيها بسبب العرق بعد أن كانت قائدة العالم الحر ووجهة المضطهدين حول العالم وسبيلهم إلى الخلاص في ارض الحرية -أو هكذا كما كانت تصور نفسها- دولة تبني الجدران لتحاصر شعب المكسيك في قرار قد تكون له آثار اقتصادية واجتماعية وبيئية مدمرة، هل فكر ترامب في سمعة الولايات المتحدة كدولة قائدة للمجتمع الدولي وهي تهاجم وتبتز أهم حلفائها في منطقة الخليج، هذا المجتمع الدولي الذي استمع بنظرات خاوية وإيماءات رافضة ووجوه عابسة الى خطاب الرئيس ترامب وهو يتحدث في الخامس والعشرين من سبتمبر 2018 في مقر الأمم المتحدة وهو يهاجم العولمة والمنظمات والمعاهدات العالمية مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية والاتفاق النووي الإيراني و انتقد إيران وفنزويلا وألمانيا وبلدان أخرى وهم يرون رئيسا أمريكيا يضرب بقيم أمريكا عرض الحائط -أو على الأقل يمارس ذلك بدون قناع أو مبررات-.
أسوأ ما يفعله ترامب حاليا بالنسبة للأمريكيين من وجهة نظري هو أنه رويدا رويدا يقوم بتدمير الحلم الأمريكي فرئيس يهاجم الإعلام ويتهم الصحفيين ويقيد حريات الأفراد وينبذ الجيران ويبتز الحلفاء ويخرج من معاهدات المناخ وحقوق الإنسان والقائمة تطول يتسبب في ضرر كبير لمنظومة القيم الأمريكية والحلم الأمريكي. ويواجه ترامب الآن تحديا كبيرا بعد انتشار فيروس كورونا في الولايات المتحدة. وفي غياب خطة واضحة يجد ترامب نفسه في موقف ملتبس للخروج من الأزمة. هذا الالتباس يظهر الولايات المتحدة منقسمة خصوصا مع فشل الكونغرس الأمريكي في التوصل إلى اتفاق حول خطة إنعاش ضخمة تبلغ قيمتها حوالي ألفي مليار دولار.
فبعدما قلل على مدى أسابيع من أهمية الخطر الصحي الذي يشكله الوباء أو حتى استخف به بشكل جعل الولايات المتحدة الآن احد بؤر انتشار المرض ودخلت نيويورك وكاليفورنيا حجرا صحيا شبه تام، بات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يكثف الرسائل غير الواضحة حول القيود المفروضة للحد من انتشار فيروس كورونا. وما زال ترامب يقوم بتوجيه رسائل ملتبسة أو حتى مبهمة في بعض الأحيان في بلاد تواجه انتشارا سريعا لوباء كورونا، متأرجحا بين الدعوات إلى الوحدة الوطنية وتغريدات انتقامية وحسابات انتخابية.
هذا التأرجح أظهر أغنى دولة في العالم في مشهد يبرز الانقسام، وإذا كان البحث عن التوازن بين أهداف الصحة العامة والاستمرارية الاقتصادية للبلاد يشكل نقاشا مشروعا، فإن الطريقة التي كثف فيها الرئيس الأمريكي المبادرات بدون تماسك واضح تترك خصومه كما بعض حلفائه في حالة استغراب. هذا التخبط يحدث لان الرئيس الأمريكي لا يريد أن يكون لوباء كورونا دور في تعطيل حملته الانتخابية ولكن يبدو انه إذا لم يتمكن الرئيس الأمريكي من تدارك الموقف فقد تظهر أزمة وباء كورونا عُري إدارته المفتقرة للمهنية وتصرفات ترامب الهوجاء التي تضع السلطة والمال والشهرة فوق الحرية والمساواة وحقوق الإنسان الأمر الذي لو حدث فقد تكون فرصة المرشح الديمقراطي في الانتخابات المقبلة ميسرة بشكل كبير في الإطاحة بأكثر الرؤساء الأمريكان إساءة للقيم الأمريكية والعالمية وللإنسانية جمعاء.
وتبقى الأسئلة المطروحة هل سيسمح الشعب الأمريكي لرئيس لا تحركه مبادئ قوية أو عقيدة راسخة أن يستمر لولاية ثانية تاركين القيم الأمريكية والحلم الأمريكي عرضة للتشويه والضياع ؟وهل ستكون كورونا القشة التي تقصم ظهر المغامرة السياسية لترامب كرئيس للولايات المتحدة؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.