الاتحاد الأوروبي هذا التكتل السياسي الاقتصادي الذي بدأ طريقه منذ عام 1951 والذي رسم مسار ثابت لإنشاء وحدة بين شعوب أوروبا بداية بأهداف اقتصادية محضة وصولا إلى رغبة أعمق في الاندماج، ظهر في البداية كشراكة اقتصادية فقط ولكن تطور باد ذلك ليصبح تكتل سياسي وتم نقل صلاحيات الدول إلى المؤسسات الاوروبية وذلك لتحقيق مجموعة أهداف اهمها تأسيس مواطَنة أوروبية تضمن الحقوق الأساسية والحقوق المدنية والسياسية وذلك إلى جانب العمل على ضمان مبادئ الحرية والأمن والعدل دعم التقدم الاقتصادي والاجتماعي من خلال التأسيس لسوق مشتركة وعملة موحدة وترسيخ أسس التنمية الإقليمية وقضايا حماية البيئة.
كغيره من التكتلات اصطدم الإتحاد الأوروبي بأزمات كثيرة ومتتالية ادت إلى اختلال في نظامه وفي توازنه. من بينها أزمة الهجرة واللجوء حيث شكلت إحدى المسائل الخلافية بين دول الاتحاد، وأيضا أزمة الشعبوية حيث أحيت موجات اللجوء المشاعر القومية ومعها أحزاب اليمين الهوياتي الرافضة للاندماج الأوروبي ما جعل ظاهر الأزمات في الاتحاد اقتصادي لكن باطنها ثقافي، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية حيث عرفت منطقة الأورو، منذ نهاية 2009 وإلى يومنا هذا أزمة مالية حادة عرفت بأزمة الديون السيادية والتي أدت إلى اختلال كبير في صفوف الاتحاد.
لكن كل هذه الازمات لا يمكن أن تكون أكثر أهمية من أزمة البريكست التي تعتبر ضربة مؤلمة ونقطة فاصلة في تاريخ الإتحاد حيث قررت المملكة المتحدة في23 يونيو 2016 عبر إستفتاء شعبي الخروج من هذا التكتل لعدة أسباب أهمها:
– تخوفها من سيطرة دول منطقة اليورو الـ19 على مجريات اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي.
– والتذمر البريطاني من الرسوم الأوروبية.
– والخوف من الإرهاب حيث أصبح الإرهاب يشمل هاجس بالنسبة للبريطانيين خاصة بعد عدة عمليات إرهابية تم تنفيذها.
كان من الممكن أن يكون هذا الفيروس فرصة لتدعيم التكامل بين الدول الأوروبية التي واجهت عدة أزمات لكن تطور وانتشار الفيروس بسرعة أدى إلى تحول سياسيات وإجراءات الدول إلى حمائية أكثر |
يعتبر هذا الخروج لبريطانيا خسارة 66 مليون نسمة و15 بالمئة. من الدخل القومي للاتحاد وعلاوة على ذلك لا يمكن للاتحاد أن يعوض خسارته لقوة كبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن وأيضا لا يمكن انكار الخوف الكبير من تكوين بريطانيا لقطب منافس، ولكن من منظور آخر الخطورة الحقيقية تتمثل في كون هذا الانفصال أشبه بعدوى ممكن أن تنتقل من دولة إلى أخرى داخل القارة العجوز وهذا في ظل المعطيات التي أبرزُها صعود التيارات اليمينية والمعروفة بنزعتها الوطنية وبالتالي عدم اعترافها بالسياسات العابرة للحدود على اعتبار أنها تنقص من سيادة الدول أن كل ما تم ذكره من أزمات ومشاكل وعراقيل لا يمكن أن نقارنها بما يحدث الآن في العالم وفي أوروبا تحديدا، فالضربة القاضية التي تواجه الاتحاد الأوروبي الآن هي أكبر وأصعب من البريكست فالاتحاد. أمام محاربة عدوى حقيقية وهي فيروس الكورونا كوفيد19. الذي سيهدد حياة الملايين من المواطنين وسيهدد الأمن القومي للدول ويهدد حتى الاقتصاد.
إن انفجار الفيروس في القارة العجوز أدى إلى أزمات كبيرة وخلل وزعزعة في النظام العام للاتحاد وللدول وأهمها الأزمات الاقتصادية فإن الأسهم الأوروبية انخفضت بنحو 1.5 تريليون دولار في أسوأ أداء لها منذ الأزمة المالية في 2008 حيث أدى الانتشار السريع لفيروس كورونا خارج الصين إلى عمليات بيع مطردة تخوفا من ركود اقتصادي كما أن الفيروس أصبح يمثل تهديد مباشر على حركة السياحة والسفر. وهناك تحذيرات كثيرة بدأت تزداد من التأثير الاقتصادي للفيروس على الدول الأوروبية فقد عبرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عن خوفها من أنّ القارة ربما تواجه سيناريو تأثير الدومينو بحيث تنهار اقتصادات الاتحاد الأوروبي دولة تلو أخرى، وترى كبيرة الاقتصاديين في المنظمة لورانس بوني خطورة جمّة على اقتصاد أوروبا بسبب أزمة كورونا وذكرت بوني في مؤتمر صحافي أنه يتعين على الحكومات التحرك فوراً لاحتواء الوباء ودعم القطاع الصحي وتقديم الدعم المالي للمستهلكين والشركات الأكثر تضرراً.
من ناحية أخرى كان من الممكن أن يكون هذا الفيروس فرصة لتدعيم التكامل بين الدول الأوروبية التي واجهت عدة أزمات لكن تطور وانتشار الفيروس بسرعة أدى إلى تحول سياسيات وإجراءات الدول إلى حمائية أكثر من تكاملية فأوروبا التي أصبحت بؤرة عالمية لتفشي الفيروس أحصت أكثر من 19 ألف إصابة أي حوالي 5.95 بالمئة من مجمل الإصابات العالمية منها 10221 حالة وفاة وفي ظل هذه الازمة تصاعدت طلبات الإغاثة من العديد من الدول المتضررة كإيطاليا وصربيا ولكن الدول الأوروبية الأخرى كفرنسا وألمانيا ردت على هذه الطلبات بإجراءات مختلفة متمثلة في منع تصدير مواردها الطبية والصيدلانية وقد تلقت هذه الدول المتضررة الوضع الجديد بخيبة أمل كبيرة حيث صرح الرئيس الصربي أن التضامن الأوروبي ما هو إلا كذبة وغير موجود بعد أن كان يتوقع أن تقوم الدول الأوروبية بمساعدته لكنه على العكس وجد المساندة والإعانة من الصين، صربيا التي بدأت مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي عام 2014 هل ستغير رأيها في الانضمام بعد مرور هذه الأزمة؟
توقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من قبل أنه ستنسحب دول أخرى من الاتحاد الأوروبي. مؤكداً أن انهيار الاتحاد الأوروبي مسألة وقت |
أما إيطاليا التي تعد أكثر دولة تضررت من وباء كورونا وهي إحدى أعضاء الاتحاد الأوروبي الذين عبروا عن انزعاجهم وعدم رضاهم بسبب عدم التضامن معها، ومع تدهور الوضع في البلاد طلبت الحكومة الإيطالية المساعدة من الدول الأعضاء في الاتحاد كما دعت المفوضية الأوروبية الدول الأعضاء لمساعدة إيطاليا، ولكن جاء الرد مخالف فقد أعلنت فرنسا وألمانيا في البداية فرض قيود على صادرات المستلزمات الطبية كما لم تستجب الدول الأخرى لطلب المساعدة، وفي مقالة كتبها سفير إيطاليا لدى الاتحاد الأوروبي ماوريتسو ماساري عقب رفض الدول الأعضاء طلب المساعدة من إيطاليا قال إن على الاتحاد الأوروبي أن يتخذ خطوات ملموسة مؤثرة وعاجلة وألا يكتفي فقط بالاجتماعات وتبادل وجهات النظر، وأضاف يجب ألا تترك إيطاليا وحيدة في مواجهة هذه الأزمة أن هذه أزمة عالمية تتطلب تحركاً عاجلاً من أوروبا قبل كل شيء وتابع ماساري هذا الموقف يعد مؤشراً سيئاً على التضامن بين بلدان الاتحاد الأوروبي، وبهذه العبارات أكد مساري أن إيطاليا تُركت وحيدة في مواجهة فيروس كورونا كما تركت وحيدة في مواجهة أزمة اللاجئين، فهل تعتبر هذه التصريحات مؤشرا أن إيطاليا تفكر في الانفصال عن الاتحاد الأوروبي؟
إن الدول الأوروبية تخلت عن بعضها البعض في خضم الأزمة وتسابقت وراء الحفاظ على أمنها الداخلي وسلامة مواطنيها فهل هذا يدعم تصريحات المحللين في أن ضعف التكتلات يظهر في مثل هذه الأزمات حين تصبح مصلحة الدولة أهم من مصلحة التكتل وأهم من ديمومته وتعتبر هذه فرصة كبيرة لطرح إشكالية جدوى مواصلة هذه الدول لعضويتها في الاتحاد؟ في حين أن هذا الاتحاد لم يقدم أي شيئ في ظل هذه الأزمة ومن ناحية أخرى تعتبر هذه نقطة ايجابية للأحزاب اليمينة لتدعيم أفكارها والأكيد أنها ستستغل الوضع لصالحها حيث إنها كانت تناضل منذ سنوات لتفكيك الاتحاد.
ولا يمكننا أن ننسى فرصة العديد من القوى الخارجية للاستفادة من الوضع والقضاء على الاتحاد الذي كان يحول دون سيطرتهم على القارة الأوروبية، فقد توقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من قبل أنه ستنسحب دول أخرى من الاتحاد الأوروبي. مؤكداً أن انهيار الاتحاد الأوروبي مسألة وقت، ونبه مارتن شولتز رئيس البرلمان الأوروبي إلى خطر انهيار الاتحاد الأوروبي وقال في مقابلة صحيفة دي فيلت أن التكتل الأوروبي في خطر وإن ثمة قوى تحاول تفكيكه ويرى شولتز أن لا أحد بوسعه اليوم أن يتبنأ بما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيستمر على شكله الحالي في غضون 10 أعوام، فيما أكد المحلل الاستراتيجي الأمريكي جورج فريدمان أن الاتحاد الأوروبي انهار فعلًا وليس قيد الانهيار، وفي ظل كل هذه الازمات المتتالية والتصريحات العديدة هل سيواصل الاتحاد الأوروبي في هذا الصراع من أجل البقاء؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.