شعار قسم مدونات

كورونا.. البقاء الجمعي أم الفناء الجمعي!

blogs كورونا

مثّل غزو فيروس كورونا للمجتمع البشري أهم حدث في الربع الأول للقرن الحادي والعشرين. حدث تجاوز في تأثيره كل الأحداث السابقة منذ هجوم 11 سبتمبر 2001 الإرهابي إلى غزو إنفلونزا الخنازير سنة 2009. لقد أدى الغزو الوبائي الحالي إلى العزل التام للمجتمعات البشرية وانغلاق كل مجتمع عن الاخرين وانعزاله على ذاته. ورغم أن عالمنا الحالي يعتبر قرية واحدة نتيجة الطفرة التكنولوجية الرقمية التي خلقت مجتمع رقميّ مفتوح بلا حدود إلا أن غزو كورونا أعاد الحدود المادية لتذكر الجميع أن القرية العالمية إنما هي قرية وهمية هدفها الوحيد تحقيق الربح بالتلاعب الرقمي بعقول البشر.

 

لقد كان شعار وحدة المصير مثلا ما قام عليه الاتحاد الأوروبي منذ نشأته ولكن الغزو الكوروني كشف أن ذلك مجرد شعار لا أكثر ولا أقل حيث تُركت العديد من المجتمعات الأوروبية إلى مصيرها مثلما حدث مع إيطاليا التي تخلت عنها أوروبا. وأصبحت كل دولة أوروبية تفكر في نجاتها الخاص دون اعتبار لنجاة الأخرين وتحولت الفردانية التي قامت عليها الرأسمالية إلى فردانية جماعية تخص كل دولة أوروبية على حدى دون اعتبار للبقية وأصبح الهدف حماية القطيع الفردي ممثلا في تلك الدولة لا حماية القطيع الجماعي الأوروبي.

 

ونفس الأمر مع كل التجمعات الوحدوية التي تتحدث عن المصير المشترك والعمل المشترك والقرار المشترك حيث لم نشهد اجتماعا واحدا لجامعة الدول العربية ولا لمجلس التعاون لدول الخليج العربي ولا لمنظمة التعاون الإسلامي وانغلقت كل دولة على ذاتها وأغلقت حدودها الخاصة وتركت جيرانها يواجهون مصيرهم ولم يتمكن الجميع من مواجهة خلافاتهم في زمن يهدد الكل بالفناء والاندثار. وكذلك لم تنعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة ولا مجلس الأمن للنظر في هذا الغزو الذي يهدد الوجود البشري ككل لاتخاذ قرارات جماعية تحمي الجميع وتوقف الغزو الكوروني الذي يهدد الجميع. باعتبار أن المواجهة الجماعية هو الحل الأكثر نجاعة من المواجهة الفردية لكل دولة على حدى.

 

الوعي الجماعي بأهمية الوحدة المجتمعية أولا والوحدة العالمية ثانيا هو المنقذ الوحيد للمجتمع البشري من هذا الغزو الخطير لعدو خفي وغامض يتطور كل يوم

لقد شهد التاريخ البشري اندثار وفناء مجتمعات كثيرة بسبب الأوبئة القاتلة مثلما حصل مع المايا بالبكتيريا ومع الطاعون الذي حصد أكثر من نصف سكان أوروبا في العصور الوسطى وسبب اندثار هذه المجتمعات عدم التزامها بالوقاية العامة واستهتار الكثير من أفرادها وتشكيكهم في خطورة الوباء واتكال بعضهم على الإرادة الإلهية بشكل قدري دون الأخذ بالأسباب. فكل مجتمع لم يفر من قدر الله إلى قدر الله كما قال الفاروق عمر اندثر وانتهى وأصابه الفناء، إن ما نشاهده اليوم في الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية من عدم اكتراث لدى العديد من السكان بخطورة الغزو الحالي لوباء كورونا يعد أمرا خطيرا يهدد بالفناء والدمار وفي أدنى الحالات يهدد بانهيار اقتصادي شامل نتيجة للتكلفة الكبيرة الاقتصادية التي ستنتج عن هذه اللامبالاة وسوء التقدير الجماعي لخطورة الوضع.

 

إن المجتمعات العربية تفتقد إلى وعي جماعي منتج وفاعل إيجابا نتيجة سيطرة زمرة من الإعلاميين الفاسدين وزمرة من المثقفين التافهين المؤدلجين الذين لا تعنيهم سلامة المجتمع بقدر ما يعنيهم تصفية حساباتهم الايدولوجية الخاصة مع خصومهم وتنمية حساباتهم البنكية ولو على حساب المجتمع. ولعل ما حصل في تونس في الأيام الأخيرة من بث اشاعات عبر قناة تلفزيونية خاصة حول التصدح في أعلى هرم السلطة لضرب معنويات الجيش التونسي هو الدليل على أن هذا الطابور الخامس لا يزال يشتغل وبفاعلية كبرى ودون اعتبار للمخاطر بل وصل بهم الأمر في احدى مناطق تونس إلى تحريض السكان على منع السلط الجهوية ووزارة الصحة من وضع مواطنين قادمين من الخارج في الحجر الصحي المخصص في أحد الفنادق حاملين شعارات جهوية عنصرية ومحرضين على طرف سياسي في الائتلاف الحاكم لأسباب أيديولوجية مرتبطة بانتمائهم للثورة المضادة. إن هؤلاء هم الخطر الحقيقي على المجتمع لأنهم يحرضون عموم الناس على التمرد على قرارات السلطة الصحية والأمنية والعسكرية كما يهددون السلم الاجتماعي بالتحريض على المهاجرين العائدين لدولهم وهو أمر يدفع للخشية من وقوع حملة تطهير شامل من الجهلة والمتعصبين ضد هؤلاء.

 

إن الوعي الجماعي بأهمية الوحدة المجتمعية أولا والوحدة العالمية ثانيا هو المنقذ الوحيد للمجتمع البشري من هذا الغزو الخطير لعدو خفي وغامض يتطور كل يوم ويعيد التكيف حسب كل بيئة وكل مجال غزو. أما خيارات الانغلاق على الذات والعزلة التامة عن بقية العالم فليست إلا خيارا وقتيّا لن ينفع البشرية لمدة طويلة، ولذلك يبدو الدعوة لاجتماع مجلس الأمن والاتفاق على حجر عالمي شامل في مدة واحدة وباتفاق الجميع هو الحل الأنجع للقضاء على هذا الغزو العالمي المهدد للوجود البشري.. دون ذلك قد يتوقف الغزو اليوم ولكن سيعود غدا بأكثر ذراوة وأشد فتكا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.