شعار قسم مدونات

عبد الرحمن منيف.. أيقونة الرّواية العربية

blogs عبد الرحمن منيف

شهِدت الرّواية العربية خلال القرن الماضي تطوّراً كبيراً، قد لا يختلفُ حوله اثنان، ومن كتبوا الرّواية، خلال هذه الفترة، تركوا وراءهم إرثاً أدبياً لا يُضاهى ولا يُداس، ويعدُّون مراجع أساسية لا يُمكنُ القفزُ عليها أو تجاوزها. كما دأبوا على روي قضاياهم وهمومهم، وأفراحهم وأتراحهم؛ رووها بسردٍ رفيع وبأسلوبٍ بديع نهل منه القرّاء ما تيسّر لهم.

أجمع النّقاد المختصّون، وعلى رأسهم النّاقد الفلسطيني فيصل درّاج على الإشادة بالإرث الّذي خلّفهُ عبد الرّحمن منيف، باعتباره إرثُ كاتبٍ أبدع كراوٍ وكمؤرخ في آنٍ. كما يُعتبرُ من أبرز الكُتّاب الّذين تشبثوا بمبادئهم ودافعوا عنها باستماتة تستحقُّ لفتت إشادةٍ وثناء. ما كتبهُ منيف، سواءٌ الأعمال الرّوائية، أو القصص القصيرة، أو الأعمال الفكرية، فهي تراثٌ عربيٌّ أصيل كتبهُ مدافعٌ عن قيّم ومبادئ العرب حتى لا تتلاشى. كتب رواياته بعد دُربةٍ ومرانٍ كبيرين، امتلك من خلالهما رشاقة الأسلوب، واصفاً وسارداً، فيستهوي قارئه، ويجعلهُ متلهفاً، ويقضم الصفحة تلو الأخرى بشرهٍ كبير.

لم أستوعب، منذ أن انفتحت على أعمال منيف واقتحمتها، أنّ هذا الرّجل لم يحظى بالمكانة التي يستحقُّها، ولم يفُز بجائزة مرموقة تحتفي بأعماله، في حين أنّ روايات، الآن، لم تصل إلى ذلك المستوى، وقد لا تصلُ إليه، تفوزُ بجوائز تحتلّ مكانةً فريدةً في الوسط الثّقافي العربي. عَرفْتُ عبد الرحمن منيف بعد أن أخبرتني صديقة تعرفُ ماذا تقرأ، جمعني بها مخيّم للكتابة الإبداعية في صيف سنة 2017م، بمدى براعة منيف، وطأطأت رأسي متحرجاً، وجعلتهُ مدفوناً بين راحتي يديّ. افتتحتُ قراءاتي له برواية "شرق المتوسِّط"، بحبكة مكثّفة، وأحداث متشابكة تدمعُ العين لما عانته شخصيّة رجب في سجون التعذيب والتنكيل سيئة السُّمعة، مسلطاً الضوء على معضلة كبيرة عرفتها السجون العربية خلال العقود المُنصرمة. بعدما أنهيتُ هذه الرّواية قفز إلى ذهني مباشرةً سؤال: كيف أقرأ ولا أعرِف هذا الرّجل؟

كتب النّاقد الفلسطيني إلياس نصر الله دراسة نقدية عن رواية مدن الملح، دراسة في منتهى الدقّة، بعنوان "السّعودية وبدعة التاريخ البديل"، استعرض فيها كل الجزئيات التي تضمّنتها الرّواية، وبيّن ما لها وما عليها بكل موضوعية

تميّز عبد الرّحمن منيف برؤيته الاستشرافية للمستقبل، وهي رؤية قلّما نجدها عند الكُتّاب العرب. لنأخذ روايته الموسومة بـ "سباقات المسافات الطويلة" التي صدرت، في طبعتها الأولى، سنة 1979م، الّتي تنبّأ فيها بما ستؤول إليه الثورات العربية والحصيلة التي ستخرجُ بها، وقد اعتمد فيها على وثائق تاريخية بشكلٍ مباشر ليُحوّلها إلى رواية في قالبٍ سرديّ بديع. لنأخذ الحراك العربي سنة 2011م، الذي انتفضت فيه الشّعوب العربية انتفاضةَ غضبٍ وطالبت بحقوقها، ورفعت مبادئ وشعارات كبيرة، لو تحقّقت فستكون عبارة عن التواءٍ حاسم في التاريخ، لكنني لا أتصوّر ثورة سياسية ستصعدُ فوق منصّة التتويج دون أن تسبقها ثورة سياسية يقودها المُثقّفون المرموقين، رافعين شعاراتهم ومطالبهم، وخيرُ مثالٍ على ذلك الثورة الفرنسية سنة 1789م، فما كانت لتتحقّق لو لم يسبِقها عصر التنوير مع الموسوعيين الفرنسيين والفلاسفة. أُجهضت الثورات العربية واندثرت مطالبها، وبيعت مبادئها، لتقبض الشّعوب الحالمة بغدٍ مزدهر، على ريحٍ هاربة. كان منيف على صواب عندما طرح رؤيته للمستقبل، وما يحدُث الآن هو تحصيلُ حاصل.

ذاع صيت رواية مدن الملح، بأجزائها الخمسة التي كُتِبت ما بين سنة 1984 وسنة 1989م، وتبعها لغط كبير، سواءٌ من طرف القرّاء أو من طرف أهل الاختصاص (النقّاد) فكلُّ واحدٍ عالجها من منظوره الخاص. أجزاء الرّواية هي خمسة: التّيه، الأخدود، تقاسيمُ الليل والنّهار، المُنبَت، باديّة الظُّلمات، جاءت كلها فيما يقارِب 2500 صفحة، وتحتاجُ لنفس طويل، ولتركيزٍ وانتباهٍ شديدين. نستشفُّ من عنوان الرّواية أن هذه المدن هي من ملح، إذا تهاطلت عليها الأمطار، كشلالٍ هادر، فإنّها ستنهار دون أدنى شك. إذن فمنيف انتقى هذا العنوان بعناية فائقة، فلو فكّرنا مئات المرّات في وضع عنوان للرواية لن نُفلح في ذلك.

عالجت هذه الرّواية إشكاليتين كبيرتين هما: الصحراء والنّفط. كان المجتمع السعودي، قبل اكتشاف النّفط، يعيشُ في بيئةٍ بدوية متواضعة، وبحياة جد بسيطة، لكنها كانت بيئةً متكاملة معرفياً. أدّى اكتشافُ النّفط في السعودية، وفي دوّل الخليج عموماً، إلى تغيير راديكالي للبنية التحتية، حيث أُنشِأت مدن شاسعة ببنيات شاهقة، وشوارع ضخمة، وبنية تحتية رفيعة، ممّا أدى إلى تحوّل قيّم المُجتمع بشكلٍ مُخيف ومُتسارع. حدثت صدمة بعد أن جاءت إحدى الشّركات الأمريكية وشيّدت مركزاً لها في وادي العيون من أجل الاستثمار فيه، وكانت تضمّ هذه الشركة في عمالها وأعضائها نساء شقراوات شبهُ عاريات وهذا يُجافي القيّم السائدة. وضع منيف في رواية مدن الملح شخصية استثنائية، وهو متعب الهذّال، الّذي كان حضورهُ مكثّفاً في الجزء الأوّل من الرّواية، وهي شخصية أقرب إلى الحلم، نظراً للقيّم والمبادئ السّامية التي يحملها، ودافع، وبشدّة، عن أصالة المجتمع؛ رافضاً للاستثمار الأمريكي، ومعتبراً أن النّفط صار نقمة وليس نعمة.

ضمّت الرّواية ثلاث ملوك: خريبط وخزعل وفِنر، وصفاتهم تنطبق على نفس الملوك الّذين حكموا في تلك الفترة، وهو ما أدّى إلى سحب الجنسية السعودية من عبد الرّحمن منيف مباشرةً بعد نشر الرّواية، كما تمّ حظرها في جلّ أرجاء البلد. كان الحكمُ في هذه الفترة قائماً على الانقلابات، ولنأخذ كأُنموذج انقلاب فنر على أخيه خزعل في الرّواية، كل ملكٍ ينقلبُ على الآخر، أملاً في وصوله للسّلطة. كان منيف في هذه الرواية منحازاً سياسياً ضدّ آل سعود، وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك، معتبراً منيف أنه قد كتب هذه الرّواية لينال من آل سعود، ولذلك قد حملت مجموعة من المُغالطات التاريخية، واعتبروه مبدعاً كراوٍ لكنّه فشِل كمُؤرّخ. كتب النّاقد الفلسطيني إلياس نصر الله دراسة نقدية عن رواية مدن الملح، دراسة في منتهى الدقّة، بعنوان "السّعودية وبدعة التاريخ البديل"، استعرض فيها كل الجزئيات التي تضمّنتها الرّواية، وبيّن ما لها وما عليها بكل موضوعية. وتعدّ هذه الدراسة من أهم الدّراسات النّقدية المحكمة التي تناولت خماسية "مدن الملح".

لعلنا لا نجانب الصواب، إذا أعلينا من شأن بعض الكُتّاب وأهملنا آخرين. عبد الرّحمن منيف، اجتمع ما تفرّق في غيره، شاء من شاء وأبى من أبى، فهو قد كتب روايات واقعية وأخرى تأمّلية، وأخرى تتأرجحُ بين الواقع والخيال، كما أنّ منيف قد لا تكادُ تجدهُ في شخصية من الشّخصيات الّتي ابتدعها، فكما قال في إحدى حواراته التلفزيونية في برنامج روافد على القناة العربية: "الكاتب يوجدُ في الشّخصيات لكنّ وجودهُ مبعثر"، وعبارته هذه تنمُّ على فطنة منيف ودهائه بتقمّص شخصياتٍ عدّة، إذْ يحاولُ أن يوصل قضيته التي يحملها على عاتقه وهمومه عبر تلك الشّخصية التي صنعها. وبالتالي وجب الاعتناء بأعماله إلى أن تصبح في واجهة الأعمال المقروءة وأن ينكبّ عليها أهل الاختصاص ويضعون لها قراءات نقدية تعالج أبعادها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.