شعار قسم مدونات

فيروس كورونا.. هل سيعيد تشكيل الوعي والسلوك الإنساني؟

blogs كورونا

من المؤكد أن كورونا فيروس Covid-19 ألحق الكثير من الضرر والعنت بالشعوب والدول، وأحدث ضجة ورجّة عالمية في غضون أشهر قلائل كما لم يحدثها من قبل أيّ حدث سابق! فدفع المجتمعات والدول إلى اتخاذ تدابير عاجلة طالت شتى تفاصيل الحياة، وسَنِّ قوانينَ طارئة وإجراءات غير تقليدية لاستباق الزمن ومحاصرة بؤر الفايروس في أضيق البقاع وأقل الحالات، كما جعل الدول تنكفئ على نفسها وتستأثر بمقدراتها وإمكاناتها لمحاربة الداء وتستنفر شعوبها لالتزام أقصى معايير السلامة الصحية واتباع السلوكات الوقائية، وأعاد ترتيب الأولويات المجتمعية وإبراز الأهمية الاستراتيجية لبعض التخصصات والفئات التي ظلت مهمشة خاصة لدى بعض الدول العربية وأخص بالذكر هنا فئة الأطباء والعلماء والباحثين.

لقد أحدث هذا الفيروس ثورة حقيقية في النظام العالمي وألقى بآثاره على القطاع الاقتصادي والاجتماعي وأفزع الشعوب والدول وهالها بقوة وسرعة انتشاره ودفعها لتغيير أساليب حياتها وفرض حجرا صحيا على مواطنيها، كما أعلنت عدة دول حالة الطوارئ وحظر التجوال ومنع الرحلات الجوية والبحرية والبرية وامتدت التدابير الاحترازية إلى منع التنقلات الداخلية وغلق المؤسسات التعليمية والمساجد والمقاهي والمطاعم والنوادي وإلغاء المناسبات والملتقيات والتظاهرات العلمية والثقافية، بل وألغى العديد من الرؤساء مواعيدهم وزياراتهم الرسمية! ومع كل هذه التبعات التي ألقى بها فيروس كورونا على المجتمع الإنساني؛ ألا يمكن أن يَسْتَبْطِنَ في ثناياه دروسا للبشرية عَلَّهَا تحسن قراءتها بعمق؟

دور المجتمع المدني والعمل التطوعي في تحقيق ما قد تعجز عنه السلطات خاصة في موضوع إدارة الأزمات والعمل الجواري ونشر الوعي وثقافة التضامن والتكافل كقيم اجتماعية راسخة في بناء المجتمعات وتحقيق القوة التنظيمة

– ألا يمكن أن يعيد إلينا هذا الوباء الشعور بإنسانية الإنسان وقيمته في عصر انتهكت فيه معايير الشرف الإنساني؟
– ألا يمكن أن يحيي هذا الوباء في نفوس الإنسانية معاني التراحم والتضامن والشعور بمعاناة الفقراء والمظلومين في شتى بقاع الأرض؟
– ألا يمكن أن يعيد هذا الوباء الذي فرض على المجتمع الإنساني حجرا طوعيا لعدة أيام، شعوره بمأساة المحاصرين والمشردين في العالم بسبب الحروب أو التصفية العرقية كسكان غزة الذين مضى على حصار العالم لهم قرابة 14 سنة، وكمأساة السوريين والإيغور وبورما والصومال وغيرهم؟
– ألا يمكن أن يعيد هذا الوباء لإنسان الألفية الثالثة ولإنسان العولمة والرأسمالية المتوحشة ولإنسان المادة والشهوة، آدميته وكرامته وعقلانيته وحكمته، فيجعله يكتشف ذاته من جديد بكثير من الموضوعية والواقعية؟
– ألا يمكن أن يجعل هذا الوباء المجتمع الإنساني يراجع أولوياته وقِيَمَهُ وأطروحاته الحداثية المصادمة للدين والفطرة، ويدرك أن السباق نحو التسلح وإعلان الحروب وإشاعة رذيلة القتل وهتك الفطرة الإنسانية والقيم الأخلاقية والفتك بالمعايير السليمة التي نزلت من السماء كان توجها خاطئا ومسارا خطيرا أفقد الروحَ طهارتَها وعرّى النفس من نبلها وزكائها وضيع الفضيلة في متاهات التشكيك والمدنية المتطرفة والعلمانية المتوحشة؟

لقد علمتنا التجارب الإنسانية أن الهمة تولد من رحم المعاناة وأنه لا يوجد في هذا الكون شر محض لا خير فيه، فالحربين العالميتين علمتا البشرية معنى "حقوق الإنسان" وبشاعة الحرب وقيمة الأمن والسلم العالميين، وهي القيم التي شهدت انحسارا في العقود الأخيرة، ولا شك أن وباء كورونا سيدفع الكثير من الدول لإعادة تقييم العديد من خياراتها السياسية والاقتصادية والأخلاقية، وقد رأينا كيف انتقد الرئيس الصربي موقف الاتحاد الأوروبي على تخاذله في نجدة بلاده من فيروس كورونا واعتبر التضامن الأوروبي "مجرد قصة خرافية على الورق" واحتفى بموقف الصين واعتبر رئيسها أخا لبلاده، والأمر نفسه مع إيطاليا التي تركت تجابه مصيرها لوحدها. أما بالنسبة للدول العربية فهي لحد الساعة الأقل ضررا ومع ذلك فقد سارعت لاتخاذ إجراءات احترازية نظرا لضعف منظومتها الصحية التي لا تقوى على مجابهة تحديات من هذا المستوى، ومع ذلك فقد شكلت هذه الأزمة صحوة للضمير الجمعي ومن المفترض أن تعيد الاعتبار للعديد من القيم والممارسات وتصحح كثيرا من المعايير المختلة في الميزان الإجتماعي لهذه الدول ومن أبرزها:

1- دور المجتمع المدني والعمل التطوعي في تحقيق ما قد تعجز عنه السلطات خاصة في موضوع إدارة الأزمات والعمل الجواري ونشر الوعي وثقافة التضامن والتكافل كقيم اجتماعية راسخة في بناء المجتمعات وتحقيق القوة التنظيمة.
2- التلاحم والتعاون في مواجهة المخاطر وتحقيق الغايات الصعبة والتكاتف الجماعي لتغيير السلوكات السيئة، وهو ما يبرز أهمية تطبيق مبدأ العمل الجماعي (روح الفريق) وتنمية الحس التكافلي في شتى مجالات الحياة وهو عين ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) -متفق عليه- وهذا المبدأ ينبغي أن يكون ثابتا في جميع الأحوال وأساسا لبناء العلاقات الاجتماعية وتعزيز التلاحم وتحقيق التنمية والتقدم والازدهار.

3- أهمية الانضباط والانتظام المجتمعي وتعديل الممارسات السلبية والإحساس بالمصير المشترك، وهذا ما تجلى في حملات النظافة والتوعية بمخاطر العدوى والاهتمام بتعقيم الأماكن العامة والنظافة الشخصية والمنزلية.
4- أهمية التعامل الرقمي وتوطين أسس الإدارة الإلكترونية،حيث لجأت العديد من الحكومات العربية إلى تشجيع طرق التسيير عن بعد وتلافي التجمعات في الإدارات بعد غلق المؤسسات التعليمية والجامعات والمساجد والتعطيل الجزئي لبعض الإدارات، وهذا ما أعاد طرح مسألة إحلال أنموذج الإدارة الرقمية والتعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد، والتي ظل تطبيقها يعاني من العراقيل الذهنية والبيروقراطية في بعض الدول العربية رغم التأكيد على أهميتها وضرورتها العصرية، ليأتي كورونا ويؤكد على أهمية هذا الإجراء، ففي الصين ساهمت التكنولوجيا والتطبيقات الرقمية التي أنتجتها مؤسسة "علي بابا" بشكل كبير في محاصرة الوباء وتطويق بؤر انتشاره وتوعية المجتمع وإسهامه في إنجاح السياسة الحكومية.

5- الوعي بأهمية البحث العلمي في حياة الشعوب ودور العلماء في المنعرجات الخطيرة والحاسمة التي تمر بها الأمم، فالعالم أجمع ينتظر اليوم بشغف ولهف ما ستقدح به عقول العلماء والعباقرة لإنقاذ البشرية وإيجاد المضاد الفعال لكورونا، وهو ما يؤكد المنزلة التاريخية للعلماء في نهضة الأمم، وقد شاهدنا العديد من الأطباء العرب في المستشفيات الأوروبية يساهمون في علاج المرضى في حين حرم منهم أبناء وطنهم، وهذا راجع لرداءة السياسات الصحية وغياب الاحترام والاهتمام اللازم بهذه الفئة على المستوى الرسمي.
6- إعادة ترتيب الهرم المجتمعي الخاص بالفئات المجتمعية ذات الأهمية والأولوية، فقد أظهر الوباء قيمة العلم في مواجهة الأزمات الفجائية والعصيّة، وهو درس يجب أن تستخلصه الشعوب، فالأطباء والأساتذة والباحثون والمكتشفون هم الرأس المال الحقيقي للمجتمعات، وهم قادتها نحو الريادة الحضارية.

وختاما أقول: لقد أيقن السحرة بعظمة الله لما رأوا بعض آياته في عصا موسى فقالوا: "آمنا برب العالمين" فهل سيوقن المسلمون بعظمة الخالق سبحانه ويصححوا اختلالاتهم النفسية والسلوكية التي أفقدتهم دورهم الرسالي وإرثهم وأثرهم الحضاري؟ وهل ستدرك البشرية أن طغيانها وجبروتها أهون من أن ينال من عظمة الله، فتراجع مسارها وتستقيم؟ وقديما قيل: "رُبَّ ضَارَّةٍ نافعة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.