شعار قسم مدونات

أين المشكلة.. تصلّب الدين أم استبداد السياسيين؟

blogs كتب إسلامية

تكاد تنحصر فكرة التجديد الديني اليوم في خانة ما ما يطلبه الجمهور وما يرضي السلطات. ويتجلى ذلك في صور عديدة كالحديث عن الخلاف بين معاوية غفر الله له وعلي رضي الله عنه ونبش الآراء الفقهية المقيتة والميتة والهجوم على صحيحي البخاري ومسلم وشيطنة التراث وانتقاد نتف منه ومناقشة الأموات والتوقف عند الدحض لمقالات السابقين والاستخفاف بالأئمة وفي المقدمة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.

وهو ما يلقى قبولًا واحتفاء من قبل السلطات الرسمية والتي باتت هي أيضًا تطالب بالتجديد الديني على أن ينحصر التجديد بأبواب فقه الطهارة وعذاب القبر والأحوال الشخصية والتعريض بالشرع من خلال فكرة ظلم الإسلام للمرأة وخصوصاً في موضوع الإرث دون أي تجديد في تناول المسائل المعاصرة والتي تتعلق بالحكم والدستور وحقوق الإنسان. يذكر الإمام عبد المتعال الصعيدي أنه لما طلبت حكومة السودان من الشيخ محمد عبده اختيار قضاة الشرع فيها كان الشيخ المراغي في مقدمة من اختارهم لذلك، وكان هذا في السنة التي شهادة العالية، وقد ذهب إليه حين اختاره لذلك فسأله عن تعريف العلم فأخذ المراغي يعرفه له بما هو مشهور في تعريفه، فقال له الشيخ محمد عبده: العلم هو ما ينفعك وينفع الناس، وكان هذا أول توجيه منه له، وقد عرض له فيه بعلم الأزهر لم يكن ينفع أهله، ولم يكن ينفع الناس، لجموده وبعده عن ذوق العصر.

ونحن نعتقد أن التجديد المطلوب هو ما ينفع المسلمين في معاشهم لا ما يعمق التيه ونرى قصور الدعوة التجديدية المعاصرة عند الكثيرين على ما لا يصلح ولا ينفع بل يذهب المرحوم الصعيدي إلى تتفيه ما وصل المسلمون إليه من تجديد تاريخياً إذا قيس بما وصلت إليه أوروبا وأمريكا ويعزو أسباب ذلك إلى عوامل داخلية وخارجية:

سيادة الاستبداد
إن جمهور علماء الدين مضوا على جمودهم في تلك القرون، فلم يتنبه منهم إلى الإصلاح إلا نفر يُعد على أصابع اليد الواحدة، وبقى جمهور العامة وراء هؤلاء العلماء الجامدين، ولم يتبع المصلحين منهم عدد يمكنه أن ينهض بالإصلاح

تمسك ملوك المسلمين وأمرائهم في العصر الحديث بحكمهم الاستبدادي، حتى إن من فكر منهم في الإصلاح لم يتجاوز به، الإصلاح العسكري لم يفكر في إصلاح طريقة الحكم وقد كان الحكم الاستبدادي أساس الفساد في المسلمين، فلا يمكن أن ينجح إصلاح مع بقائه، لأن الإصلاح يقوم مع بقائه على أساس فاسد، ولا يمكن أن يصلح البناء مع فساد الأساس، فالحكم الاستبدادي يباعد بين الحاكم والرعية فلا يشعر الحاكم في نفسه بعطف عليها، ولا يقوم حكمه على أساس الإخلاص لها، وبهذا لا يشعر بحقها في النهوض لأنها إذا نهضت تشعر بما لها عليه من حقوق وتحاول أن تشاركه في حكمها، ليكون حكما دستورياً صالحاً، تراعي فيه مصلحتها وحدها، وهذا يأباه ما طبع عليه من الاستبداد، وما جبل عليه من حبه لمصلحته وحده.

وقد بادلت الرعية حكامها المستبدين تنكراً بتنكر، فلم تخلص لحكمهم، ولم تثق بأفعالهم، وكان لهذا أثره في إخفاق الإصلاح الذي فكر فيه بعض الملوك والأمراء وفي إخفاق الإصلاح الذي فكر فيه بعض الرعية لأن الملوك والأمراء المصلحين في الحالة الأولى لم يجدوا من رعيتهم استجابة لإصلاحهم بل وجدوا إساءة ظن منها به، وإيثاراً للقديم الفاسد عليه، ولأن من فكر في الاصلاح من الرعية في الحالة الثانية لم يجد من ملوكهم وأمرائهم استجابة له بل وجدوا اعتقاداً بأنه محاولة للثورة عليهم ولولا ذلك لاتفاق كلمة الفريقين معاً على الإصلاح وكان اتفاقهما أعظم وسيلة النجاح.

التبعيض في فكرة التجديد

إن الذين قاموا بالإصلاح في تلك القرون لم يأتوا به كاملًا، بل أتوا ببعضه وتركوا بعضه، فكان لما تركوه أثر في عدم نجاح ما أتوا به، لأن الشخص إذا أصيب بأمراض لم ينفعه إلا أن يداوى منها كلها، فإذا شفي مرض منها لم يصح الجسم بشفائه وحده، بل أبطل فيه ما بقي منها أثر ما شفي منها، وقد كان ملوك المسلمين وأمراؤهم أول من تنبه من تلك القرون إلى حاجتهم إلى الإصلاح، ولكنهم لم يدركوا إلا أنه إصلاح عسكري، لأنهم شاهدوا دول أوروبا تغلبهم بجيوشها الحديثة، فلم يهمهم إلا إصلاح جيوشهم، وإلا أخذها بالأنظمة الحديثة التي أخذت أوروبا جيوشها بها، ولم يعلموا أن أوروبا لم تصل إلى تنظيم جيوشها إلا بعد أن تمت نهضتها العلمية والدينية والاجتماعية والسياسية، فكان إصلاح جيوشها كالنتيجة لهذه النهضة، فلما بدأ ملوكنا بالإصلاح العسكري قبل أن يقوموا بمثل هذه النهضة في بلادهم كانوا كمن يأخذ بالنتائج قبل المقدمات، ويبدأ بالمسببات قبل الأسباب، فيبني ما يأتي به من الإصلاح على غير أساس، والبناء إذا قام على غير أساس لا يلبث أن ينهار، ولا يكون له فائدة إلا ضياع الأموال.

غلبة الاستنساخ الدقيق على الاستنتاج العميق

إن جمهور علماء الدين مضوا على جمودهم في تلك القرون، فلم يتنبه منهم إلى الإصلاح إلا نفر يُعد على أصابع اليد الواحدة، وبقى جمهور العامة وراء هؤلاء العلماء الجامدين، ولم يتبع المصلحين منهم عدد يمكنه أن ينهض بالإصلاح، ويكون له قوة تضاهي قوة أصحاب الجمود، أو تكون أشد من قوتهم، فتقف وراء الإصلاح تحميه وتؤيده، حتى يظهر أثره بين المسلمين، ويدرك فضله من لا يدركه من الجامدين.

مقاومة السلطات لفكرة التجديد الحقيقي

إن ملوك المسلمين وأمراءهم لم يؤيدوا الحركة الإصلاحية في بلادهم، بل نظروا إليها على أنه ثورة من القائمين بها عليهم، وأخذوا يحاربونها بكل ما في وسعهم، فلقي المصلحون ما لقوا من تعذيب وسجن وقتل وآثر بعضهم أن يحتمي بالدولة الأجنبية على أن يستجيب لحركة الإصلاح فاستعدى بالطامعين في بلاده على أهلها. ومكن لهم من نفسه قبل أن يمكن لهم من رعيته.

الهيمنة الدولية

إن دول أوروبا كانت تناوىء كل حركة إصلاحية بين المسلمين، فإذا رأت أمة إسلامية أخذت في الإصلاح شنت عليها حربا تشغلها عنه، أو سلطت جواسيسها يسعون بالفساد بين طوائفها، حتى تقوم فيها فتنة داخلية تعترف أعمال الإصلاح، ولا تمكن القائمين به من المضي فيه، كما حاربت إنجلترا جمال الدين الأفغاني في الهند وفي مصر ولم يكن ذنبه عندها إلا أنه يسعى في إصلاح المسلمين، وهي لا تريد هذا الإصلاح لهم، لأنهم يصلون به إلى مناهضتها في بلادهم، ومزاحمتها في خيراتها التي تستأثر بها دونهم، وهذا هو الاستعمار الجشع الذي يبغى الفساد في الأرض، ويعمل على القضاء على من ابتلي به كما حصل منه في أهل أمريكا وأستراليا، ثم يتبجح بأنه يعمل لنشر الحضارة بين الشعوب المتأخرة، ليستر أعماله القبيحة، ويخفي نواياه الخبيثة.

وهذه هي أهم الأسباب التي كان لها أثرها في عدم وصولنا إلى التجديد الحديث في هذه القرون، فإذا أردنا أن نسير بعد هذا في التجديد عرفنا ما عاق منها عن نجاحه، واتقينا في المستقبل أخطاء الماضي، لنسلك في الإصلاح وسائله الصحيحة، ونأخذ في التجديد الأسباب الموصلة إلى النجاح، ولا يمكن هذا إلا إذا علم ملوكنا وأمراؤنا وأولياء الأمر فينا أنه لا بقاء لنا ولهم إلا بالتجديد والإصلاح. وإلا إذا علم الجامدون منا أن المنادين بالتجديد مخلصون للدين مثلهم، ولا يريدون إلا النهوض به بين الأمم، فإذا علم هؤلاء وأولئك ذلك خلصت النيات، وأمكن الاتفاق على الوسائل التي تؤدي بنا إلى ما لم نصل إليه من التجديد الحديث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.