شعار قسم مدونات

فلا نامت أعين الشعراء

مدونات - نزار قباني

ثمانية وعشرون سهما اخترقت شرايينه فكان النزف قصائداً حُبلى بالعنب. وأشعارا يتداولها الناس كما يتداولون النقود والشائعات. ويتركها العشاق وراءهم على الجدران إيذاناً بولادة حب أو نعوة لفراق حبيب، ثمانيةٌ وعشرون حرفاً فقط كانت كافيةً لتأسيس حزب الياسمين الاشتراكي الديمقراطي برئاسة الشاعر الدمشقي نزار قباني وبمباركة الشعوب العربية وتزكيتها بعد أن وجدت فيه ترجمانا محلفاً لأحاسيسها وساعي بريد عشاقها وشريكها في السراء والضراء.

   

نزار الذي لم يسبح يوماً عكس التيار. كان بالأحرى تياراً مستقلاً اتخذ مجراه كما يشاء الشعر ويرضى. ومتى كان حصان الشعر حصاناً مدجناً وقابلاً للترويض؟ ومتى كان رضاه من الغايات التي تدرك؟ لذلك اندفع كالطوفان مقتلعاً العوالق والجذور الهشة تارة ومصطدماً تارة أخرى بصخور تقاعدت عن الحركة لتتستر على الطحالب العفنة العالقة فيها، أخذ البعض عليه ازدحام تفعيلاته بالنساء وجرأته في التصاوير وطرح الأفكار ولم تخل مناسبة إلا وطرح عليه هذا التساؤل وكان في كل مرة يعترف اعترافا طفولياً أن عمر شعره من عمره مر بفترة مراهقة كان فيها على استعداد أن يعشق أول كاعب تبصرها عينه في حافلة نقل أو على شرفة مجاورة.

   

ولأن قطار العمر قطار تعوزه المكابح فقد تجاوز نزار تلك المرحلة إلى مرحلة النضوج وبلغ سن الرشد الشعري. فتغيرت معاييره ورسم ملامحاً مختلفة لحبيباته. ذلك الاختلاف الذي عبر عنه بقوله "مكياج المرأة لدي الآن هو مكياج ثقافي ولا أستطيع الآن أن أحتمل امرأة جميلة وغبية. وإن ملكات الجمال هنَّ أسوأ مصادر الشعر" وزاد عليه في شعره تأكيداً:

  

كم تغيرتُّ بينَ عام وعام

كان همي أن تخلعي كل شيء

وتظلي كغابةٍ من رخام

وأنا اليوم لا أريدك إلا

أن تكوني.. إشارة استفهام

 

في حين اتهمه البعض بالإلحاد خصوصاً بعد قصيدته (خبز وحشيش وقمر) سنة 1954 التي انتقد فيها واقع الدروشة والتزهد الذي انتشر بين الناس. وقد وصل الجدل إلى قبة البرلمان آنذاك وطالب النواب بمحاكمة نزار وطرده من السلك الدبلوماسي فرد عليهم وزير الخارجية خالد العظم "أنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه ولا على شعره. فإذا كنتم تقولون إنه هجاكم بقصيدة فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادة. وكفى الله المؤمنين شر القتال".

 

ربما جمح نزار في أخيلته وأفكاره بعض الشيء لكن ألا يغفر له الإرث الكبير الذي خلفه ولغة الحب الجديدة التي اخترعها والبصمة التي تركها في تاريخ الشعر المعاصر؟ ثم ألا يؤخذ على منتقديه ذات المآخذ؟؟ ألا يؤخذ على الصوفيين شطحاتهم وعلى الأصوليين تعصباتهم وعلى اليساريين التلون والتماهي؟ يخيل لي أن الناس لا ترتاح إلى المجانين والفدائيين فتسارع لإقامة المستشفيات والأضرحة لهم ونزار لم يكن إلا شاعراً فدائيا ومجنوناً من الطراز الرفيع.

   

  

أما فيما يخص ما خلعه على عبد الناصر في بضع قصائد من خلع إنما يدلل على أيديولوجيا لم يتبناها هو بل بالأحرى هي من تبنته. ولا يمكن أن تُقرأ تلك النصوص بمعزل عن عدة سياقات أولاها العاطفي الذي أتقن عبد الناصر خلقه وتغذيته شرقاً وغرباً. والزمني حين رأى فيه الناس دونكيخوتا شارداً في زمن متختم بالهزائم. والمكاني لدى نزار حين أصبحت مصر وطناً بديلاً له وجرائدها مداراً لقلمه. كل هذا لا يبرر ساحته أمام نقاده. لكن إذا كان هو نفسه لم يبحث قط عن مسوغ أو تبرير فلنتحرر نحن إذن من هذا العبء.

 

لقب (شاعر المرأة أو الحب) كان مجحفاً بحقه وبحق شعره. فهو ليس بأكاديمي تحصل على شهادة في العروض ثم تقدم لماجستير في الحب وبعدها أعد رسالة دكتوراه عن المرأة بل كان جامعة تعج بالفروع والاختصاصات والتسجيل فيها بالمجان. متيحاً لكل الناس الانتساب إلى مجمعه.. مجمع الياسمين. ذاك المجمع الذي ما إن افتتحه حتى كسدت بضاعة محال البقالة والسمانة الشعرية وأفلست رابطة (شعراء البلاط للمديح المأجور).

 

نزار الذي تربى على يد الأحزان أبى إلا أن يكون الوكيل الحصري للربيع والطيور المعفية من جوازات السفر والبحار التي لا تعترف بالشواطئ كحدود رسمية لها فتصفع رمالها بالأمواج مرارا وتكرارا، فعلى الصعيد الشخصي لم يكن فقدان ابنه البكر توفيق وهو في مقتبل العمر أول أحزانه ولا فاجعة زوجته بلقيس الراوي آخرها. بلقيسه التي تشظت في سماء لبنان بتفجير السفارة العراقية رثاها وكأنه على موعد مع ذلك المشهد الكربلائي. ورثا العرب معها بعد أن أرسل لهم بطاقة شكر وزجاجة فودكا مقترحا نخب الانتصار المزيف على قلم الحمرة قبل قلم الكتابة.

 

بلقيس تلك الزرافة التي تنبأت بهلاكها قبل أن تطأ أقدامها لبنان وقبل أن يزاحم جيدها البابلي قمم أشجار الأرز الشاهقة. هلاكاً كان هيروشيمياً بنكهة بيروتية. وفي سؤال وُجه لنزار في إحدى المقابلات عن بلقيس الشهيدة وأثرها في شخصيته وشعره: "بلقيس امرأة مقاييسها تطابقت مع مقاييس الشعر.. وهذا شيء نادر في تاريخ النساء.. وفي تاريخ الشعر.. تزوجتني وكانت تعرف أنها تمسك الماء والنار في قبضة يدها. وراهنت على مصادقة وحش الشعر في داخلي وربحت الرهان.. وعاشت مع العاصفة في غرفة واحدة.. إن الحياة مع شاعر هي بكل تأكيد عمل انتحاري. وحين رضيت بلقيس أن تتزوجني وسافرت معي من بغداد إلى بيروت. كانت تقول لصديقاتها وهن يودعنها في صالون المطار "أنا لم أتزوج زوجاً تقليدياً.. أنا تزوجت هيروشيما".

 

أبحر نزار بسفينة العرب متحملاً دوار البحار السبعة وغثيانها باحثاً عن أي جزيرة يرسو عليها قومه وكلماته ونساؤه. لكن الزوابع لم توقر شيبته وأتت الأعاصير على الأشرعة والربان فشج رأسه وراح في غيبوبة لم يصحُ منها إلا والقراصنة تحتل ظهر السفينة عامدة إلى القاع تخرقه والركاب يقفزون منها متوهمين النجاة وصراخهم.. اللهم أسألك نفسي. في حين كان لسان شعره.. اللهم أسألك قومي. فمنذ نكسة حزيران والشعر عنده متوتر.. ونساؤه متوترات ونزقات.. وعصافيره في هجرة مستمرة.. والحب لديه في حالة حرجة بعد أن أصيب بجلطة وأدخل غرفة الإنعاش والوطن العربي في coma لا يبدي استجابة لأي منبه ألمي أو شعري.

    

  

نزار كان سيف الشعر المسلول يقاتل بكلتا يديه ولسانه عن روما ضد نيرون وعن بغداد ضد هولاكو وعن الوحدة ضد الكانتونات المذهبية والعرقية وعن الشعوب ضد كلاب المخافر. وعن المرأة ضد معسكرات التستوستيرون طالباً منها التمرد على قرارات الإقامة الجبرية والتسلل إلى السينما ودور الأزياء وقراءة محاورات أفلاطون وكوجيتو ديكارت ومناقشة نظريات فرويد والنظرية النسبية! فاتحاً بذلك معركة متعددة الجبهات وظهره وقفٌ لطعنات الخناجر. ولما طُحنت عظامه والتوى عموده الفقري التواءً أتاح له النظر إلى الوراء رأى علماء بغداد وأمراءها يأخذون (السيلفي) مع هولاكو داخل خيمته وهم جلوس على مائدة العشاء الأخير قبل الذبح.

 

ورأى الشعوب تتقهقر وتستغيث طالبة العودة إلى حظيرة الطاعة طمعاً بالماء والبرسيم. أما المرأة التي أحرق ثيابه ليذيب عصر الجليد المتراكم فوق روحها وجسدها رآها تحرق مكتٍبتها وتفتتح عوضاً عنها مستودعات للمكياج ومراكز تجميل لعمليات الشفط والنفخ. أما نوارس الحرية التي أهداها لها بأجنحتها الخرافية فقد سلخت جلدها وقصقصته وفصَّلت منه على مقاسها فستانا ضيقاً ولباساً سافراً.

 

برهن نزار وهو على فراش الموت نظرية مفادها ألا تقاعد في الشعر وأن القلم لا يشيخ ونبض الحبر عمره من عمر نبض القلب. فالممثلات في عمره يعتزلن الكاميرا بداعي التجاعيد والترهلات. والرسامون يدفنون الريشة والألوان عند أول رعشة تنتاب أصابعهم. وحناجر المغنين تتكلس مع الزمن وتصاب حبالها الصوتية بالضمور. أما نزار فظل يرسم بالكلمات ويغنيها معتلياً مسرح الشعر الخالي من التمثيل حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ممزوجة بهمهمات قصيدته الأخيرة / الحب المستحيل/

   

أحبكٍ جداً..

وأعرف أن الطريق إلى المستحيل طويلُ..

وأعرف أنك ست النساء وليس لدي بديلُ..

وأعرف أن زمان الحبيب انتهى..

ومات الكلام الجميلُ..

لستِّ النساء ماذا نقولُ.. أحبكٍ جداً..

أحبكِ جداً..

وأعرفُ منذُ البداية ْ

بأني سأفشلْ..

وأني خـلال فصُول الرواية ْ

سأقـُتلْ..

ويُحمل رأسي إليكِ..

وأني سأبقى ثلاثين يوماً..

مُسجـىً كطفلٍ على رُكبتيكِ..

وأفرحُ جداً بروعة تلك النهاية..

وأبقى أحبكِ..

أحبك جداً!!..

  

رحل نزار عن عمر ناهز الخمسين مجموعة شعرية.. رحل وما في جسده شبرٌ إلا وفيه ضربة بقصيدة أو طعنة بحرف أو رمية بدمشق واليوم يموت على فراشه حتف شعره.. فلا نامت أعين الشعراء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.