شعار قسم مدونات

يوم الرحيل.. في ذكرى كوكب الشرق

blogs أم كلثوم

خمسة وأربعون سنةً من الزمان مرّت منذ الوداع، منذ الرحيل والفقد الأليم. كيف لكوكب الشرق أن ينطفئ، ويبقى ضوؤه لحنًا مرسلًا ساريًا باقيًا لملايين السنين؟! منذ ميلادها الفنّي المبكر ذاع صيتها وانتشر صوتها وفاحت ألحانها حتّى عرف سمّيعة عذب صوتها الساحر معنى الكمال والمثال الحيّ لمطرب الإطراب والسلطنة والحياة والوحي إحياءً للخمود والركود الذي طال موسيقى الشرق قبل ظهورها؛ فهي رسالةٌ إحيائية خاصّة، آية الشرق المجددة العجيبة!

 

ألف ليلة وليلة أخرى، تذوب في شدوها وتختصر الزمان، ليلة كلثومية بألف ليلة، إسراء للعواطف والشجن إلى بدائع الألحان والكلمات المتصلة بصدق المشاعر والإحساس بها، اجتمعت بها الألحان، وانصهرت فيها معاني الإنسانية الباقية والجمال، ضوء ونغم، زلزال يهزّ الشرق ويحيي أيامه ولياليه، يعيش بذاكرة الأديب والعامل والفلّاح، بذاكرة ألوان العالم كلّها، بأشكالها وقيّمها التي تختلط حين تنصت لشدوها، شدو سيّدة الغناء أم كلثوم.

 

هكذا بدأ الزمان، وهنا ينتهي ازدياد ثوانيه، ولا يكتمل، هنا حين رحيل كوكب الشرق، يستعد الزمان بما لديه من ذاكرة كلثومية يقدمها لمن بعدها، يعرفهم من خلالها بذاته، وأوانه

ودّعت وكان "الموت لا يعني لها شيئًا" فكانت وما زالت، ولن يكون، ودّعت بالرحيل وكان في الموت تأكيدًا على خلودها، انتهاء عمرها وبقاء فنّها، محرك الزمن الوحيد، يوقفه حينًا ويمرره سريعا، في يوم وداعها، في يوم الرحيل، يوم اجتمعت الملايين هاربةً من واقعها وهزّة الخبر، تنعي وتغني وتهز الذاكرة وتخرج منها أجمل ما غنته ذات يوم وهي بينهم، ذكريات تعبر بين أفكارهم، تذكرهم حينما الفجر يبدي، حينما تظهر كوكبهم على المسرح، و"تفكّرهم بغنوة" يوم سمعوها سوا!

 

تمر جنازتها على أنين اللحن دون غناء، لحن جنائزي حزين، لغة اعتادوا أن يصاحبها صوت كوكب الشرق، يترجمها لهم ويعرفهم بمعانيها، لكنها في يوم الرحيل كانت لغة من لحن صامت، وموسيقى خارسة يحرس صمتها سكوت الوداع والرحيل الحزين، كم هي آهات يوم الرحيل، آهات اعتادوها مغناة بلحن شادية خالدة، تمر اليوم في أسماعهم طنينًا عذبًا يعذّب ذاكرتهم بالحنين إليه، أين آهات أم كلثوم اليوم لتحصّن آهاتنا؟ تواسي ليالينا وتمر معنا بين أفكارنا، تصاحبها وتحبّها وتسكن فيها! تبقى فنًا بيننا ولحنًا وصوتًا شاديًا يستوطننا وخواطرنا، أينما ذهبنا بخيالنا فثمّة أم كلثوم، أينما عبرنا مع ذكرياتنا فكلّها نغم باقي، كلّها أم كلثوم.

  

ما جال في خاطري أني سأرثيها

بعد الذي صغت من أشجى أغانيها

قد كنت أسمعها تشدو فتطربني

واليوم أسمعني أبكي وأبكيها

 

يوقد بهذه الأبيات الذكرى، يبكيها ويرثيها شاعر الشباب أحمد رامي، الذي صاحبها من ضحى عمره وعاش لها، وفي مرثيته الشهيرة للسيّدة أم كلثوم يغنّي ويقود رامي مشاعر من عاشوا مكبلين بقيد فنّها، بحبّ فنّ سيدة الغناء العربي، قيد يقود ولا يقيّد، يقود إلى معانٍ وارئية للخيال والحبّ، وسماوات كلثومية فضاؤها هوى واجتذاب لكوكب الشرق، جاذبية أمواج كهرومغناطيسية، طربية سلطانية! في يوم الرحيل، يوم من اللا مزيد، يوم تغلق البوابة الكلثومية وتكتفي بمعجزاتها، بآياتها البديعة، وتفتح باب تلقيها للأجيال اللاحقة، باب يكتفي بما داخل الكوكب الضخم للخلود والاعتلاء والتعليم والتطريب. كوكب يجمع الزمان، يخلطه ويعصره، يمحي أهميته، ويؤرخ ذاته.

 

هكذا بدأ الزمان، وهنا ينتهي ازدياد ثوانيه، ولا يكتمل، هنا حين رحيل كوكب الشرق، يستعد الزمان بما لديه من ذاكرة كلثومية يقدمها لمن بعدها، يعرفهم من خلالها بذاته، وأوانه، وكيف حملته هذه الألحان إليهم، زمن الذاكرة، وزمن كل ما يحوي الإنسان من نغم ونشوة واندلاع المشاعر، حينًا يزلزله ويمرر فيه ذاته، يعرف نفسه ويكتشف عواطفه وأفكاره، هو الزمان الكلثومي الذي يفتّش فيك عنك، ويرحل بك ساعات الرحيل إليك، إلى يوم الرحيل، في يوم الرحيل، تبدأ بالرحيل رحلة إقلاع بما حمله الزمن من مبدعته، يحمل أغانيها وفنّها إلينا، ويوقف الرحيل ترديد ثواني الزمن، ويبدلها بكل نغم ساح بكلمة فاحت في شدو كلثومي ليحرّك عقارب مشاعرنا وذاكرتنا، وذاكرته، ذاكرة كلثومية غزيرة، في ذكرى الرحيل.

 

هي الذكرى الكلثومية التي تجدد فينا ذكرياتنا مع كوكب الشرق، تلحن حياتنا من جديد، يوم الرحيل، ذاكرة الرحيل، رحلات إلى عالم كلثومي أجدد، ذاكرة كلثومية تتجدد، تعود بنا إلى ذكرى وداع الشرق، ساعات الانفجار العظيم، محطة كلثمة الزمكان، في ذكرى الرحيل في كلّ اتجاه، وحين ذكرى الرحيل، حين يملأ صوتها أذهان جميع الملأ، في زمن لولبي له صوت واحد، صوت الزمان ومعجزته، صوت الشادية الخالدة، صوت أم كلثوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.