شعار قسم مدونات

مسائل حساسة في حل إشكالية التخلف العربي!

blogs مقهى

من يجرؤ على دحض ظاهرة تخلف المجتمعات العربية؟ إشكالية العصر الذي توسّع علماء الميادين على تفنيدها وتفسيرها وتحليلها، تكاد تكون إشكالية أكثر ظاهرة اليوم، في عالم تكثر فيه الأرقام والأبحاث والاستنتاجات عن الواقع العربي ومساهمته في تأسيس المستقبل العالمي. وفيما أخذت ظواهر التخلف أبعادا اقتصادية وسياسية ودينية، تظهر الأبعاد الاجتماعية والثقافية أكثر رصانة في تفنيد ظاهرة التخلف المجتمعي، لانطلاقها من نظريات إنسانية أكثر قابلية للمقاربة، ولابتعادها عن النظريات السطحية كالمؤامرة والابتعاد عن الإرث الحضاري وما إلى هنالك. إن هذه الورقة كفيلة بطرح وجهات النظر يمكن من خلالها إيجاز بعض ظواهر التخلف الاجتماعي ومقاربتها مع الواقع العربي المتجانس، اتطلاقا من علاقة البنى الأسرية والتخلف.

بديةً، إن الأسرة هي مركز المجتمعات وفيصلها، لا يمكن الحديث عن ظواهر دون الرجوع إلى الدينامية الفردية والتأسيس الأسري، وقد تحدث حفنة من علماء الاجتماع عن ظاهرة الأسرة العربية وتجلياتها المجتمعية، نذكر منهم مصطفى حجازي، زهير حطب، هشام شرابي وغيرهم الكثير من الذين درسوا مسائل تخلف وتشلع الفرد العربي انطلاقا من العوامل الأسرية المحيطة بها. "الأولاد يقتلون آباءهم في الغرب، أما في الشرق فنحن قتلة أولادنا" كان عنواننا في أسئلة أحد مسابقات علم اجتماع العائلة. نحن ومنذ القدم نخوض إشكالية التنشئة الأسرية مثل أي مجتمع متخلف، إن الدينامية الأسرية وعوامل التشكل الأسري تكاد تكون مفصلية في تحقيق مجتمع متقدم.

الأب والعائلة
يكمن التخلّف في إعادة الاستهلاك الثقافي وقتل الإبداع والحرية الفردية. تعيش الأسر الممتدة على مبدأ التقليد والتماهي مع الآخر المشابه، إن هذه الدينامية ثابتة في النظم العشائرية والشبه بدوية، مكرّسة التبعية إلى الأشخاص لا إلى المبادئ

نكاد نجزم ارتباط المجتمعات العربية تحت جناح الثقافة الإسلامية، هل يمكن ذكر مجتمع عربي خارج الفلك الإسلامي؟ يشدد الإسلام على دور الآباء ومكانتهم في ترسيخ الضبط الاجتماعي والخضوع، فلا تغيب ملامح البطريركية عن أي جانب من جوانب البنية الاجتماعية ابتداءً بالبنية الأسرية، فالأب هو مصدر الطاقة ومرجع الطاعة، تتحول فيها البنية الأسرية تحت هرمية جامدة وراسخة يتسيدها الأب رباً للعائلة، يتبعه الجزء المتبقي من هذه البنية. إن مقاربة التخلف والبطريركية واقعية إذا ما بحثنا واقع التغيرات الاجتماعية والثقافية المعولمة: دور المرأة، فرص العمل، التحولات الاقتصادية، وسائل الإعلام. فيما تزال الثقافة الإسلامية تقدّس دور الآباء في حفظ الكيان المقدس، تسير المستجدات السالفة الذكر عكس هذا الواقع. إن هذه الإشكالية تقف حاجزا ثقافيا صلبا أمام كل هذه التبدلات والتغيرات المستجدة فارضة ضغطاً هائلا على كل أنواع التقدم الفردي الواعي واللاواعي.

الزواج والعائلة

فيما يبدو الزواج شيئا من التقيّد في المجتمعات العلمانية الغربية، يستمر عقد الزواج أساساً محوريا في تأسيس الأسرة العربية. ففيما تنكفئ نسب الطلاق في المجتمعات الغربية نتيجة المساكنة لا العقد، تكثر ظواهر الطلاق والفسخ لدى المجتمعات العربية. لا بد من القاء الضوء على الثوابت الدينية في تعريف الزواج الإسلامي، أبرزها مسؤولية الزوج وحقوق المرأة ودور الأولاد. هي حقوق وواجبات ثابتة تدور اليوم في تخبط المتغيرات الاجتماعية والثقافية الجذرية. في مخاض عسير، يبرز الطلاق كظاهرة عسيرة في مجتمعاتنا العربية، مخلّفة إشكاليات عميقة في التنشئة الأسرية. ففيما لفظ الغرب مبدأ الزواج لدواع اجتماعية واقتصادية صرفة، تدفعنا الثقافة الإسلامية على تبني العقد الديني كأساس محوري في عملية تأسيس العائلة. مخلّفة تجليات عميقة في مسار التخلف الفردي بدءاً بالاضطرابات النفس-اجتماعية انتهاء بالاضطرابات السلوكية والذهنية لدى الأولاد نتاج هذه المؤسسة. إن مصطلح الـ"هدر الإنساني" في قاموس الدكتور مصطفى حجازي تدليل على حالة الانفصال الذي يعيشها الفرد العربي ضمن بيئته الأسرية مع واقع الحضارة والتقدم الإنساني عاقداً مقاربة بين الهدر والتشلَع الفردي والأسرة العربية.

البداوة والعائلة

فيما يطغى في الغرب نظام الأسرة النووية المقتصر على الأب والأم والأولاد، يعرّف علماء الاجتماع الأسرة العربية بالممتدة في بعضها ومشوّهة في بعضها الآخر. فلا تقتصر العائلة العربية على دائرة ضيّقة، بل تخضع لبنية هرمية وعمرية صلبة بدءاً بالأجداد انتهاء بالأصغر سناً. إن هذه الهرمية الثقافية المقيّدة تفرض نظاماً من التبعية والخضوع العمري للأكبر سناً. ففيما حقوق الأطفال شبه مقدّسة في الدول المتحضّرة، تبدو في الدول العربية شكلاً من أشكال إعادة الانتاج واستهلاك الماضي. إن هذه الأنظمة الأسرية قائمة على شكل من أشكال الاستبداد التقليدي بحيث يُقتل الابداع ويمجّد التقليد، وقد تلحظ هذه البنى في البقع الريفية والداخلية التي تشكل الشريحة الواسعة من الجعرافيا العربية، فيما تميل المدن العربية أكثر إلى الشرخ الأسري. يكمن التخلّف في إعادة الاستهلاك الثقافي وقتل الإبداع والحرية الفردية. تعيش الأسر الممتدة على مبدأ التقليد والتماهي مع الآخر المشابه، إن هذه الدينامية ثابتة في النظم العشائرية والشبه بدوية، مكرّسة التبعية إلى الأشخاص لا إلى المبادئ، والانتماء إلى الملل لا إلى القوانين.

إن معالجة مفهوم العائلة العربية تكاد تكون ملحة في ضوء ما نعيشه من تبدلات عامة ومستجدات مقيّدة، إن العالم العربي بحاجة إلى إعادة طرح المسألة الأسرية إلى الواجهة وتفنيدها في بعديها الثقافي والتفاعلي. ليس الدين بعائق نحو استمرار جوهر العائلة ولكن القيود الفقهية الجامدة التي تأبى تعديل هذه المؤسسة مع المناخ العام. ليس الإلحاد الأوروبي بديلا للواقع العربي، بل وعي الطبقة الروحية بمآخذ هذا الواقع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.