شعار قسم مدونات

"صفقة القرن".. هل وقعنا في فخّ المُبالغة المقصود؟

blogs ترامب ونتنياهو

بُعيد وصول ترمب لسُدّة الحكم في أمريكا، انتشرت في وسائل الإعلام وبشكل تدريجي ومُتنامي أحاديث عن ما تُسمّى "صفقة القرن"، وعُرف لاحقاً أنّ مهندسها جاريد كوشنر، والدّاعم بقوّة لإسرائيل ونتنياهو تحديداً. التساؤلات تدور حول غموض مقصود في البدايات، ثم تبعتها خطوات، ورافق ذلك تضخيم حول حدث لا يستحق كلّ ذلك، ثمّ الإعلان النهائي والذي غلب عليه طابع الدعاية أكثر من المضمون.

إذا رجعنا للزمن قليلاً منذ بدايات ما تُعرف "بعملية السلام" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فحينها نعلم أنها لا تستحق "الصفقة" اسماً لها، ولا ذاك الصّخب الذي رافقها. مؤتمر مدريد "للسلام" عام 1991، وبعدها اتفاق أوسلو عام 1993؛ هذان الحدثان أكبر بكثير مما أعلنه ترمب، لأنهما مثّلا نقلة نوعية في العلاقة بين إسرائيل ومنظمة التحرير وبلدان عربية أخرى، فانتقلوا علانية من الصراع والعداوة إلى المفاوضات والسلام. عام ألفين جرت اجتماعات ومفاوضات كامب ديفيد، والتي استمرت أسبوعين بين الرئيس الراحل ياسر عرفات، وإيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، وتحت رعاية بيل كلينتون، ووصلت النقاشات للتفاصيل الدقيقة، وعُرض على الفلسطينيين أكثر من فتات "صفقة القرن"، وما تم الأمر ولا كان.

القيادة الفلسطينية إذا أرادت مواجهة دعاية ترمب الأخيرة، فإن ذلك يتطلب تغييراً جذرياً في رؤية السلطة لطبيعة الصراع مع إسرائيل، ويتْبعُ ذلك تغيير جوهري في الوسائل

في ظل الانتفاضة الثانية مطلع القرن الحالي، ومع احتدام الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ طفت على السطح "خارطة الطريق"، والتي انبثقت من لجنة رباعية مؤلفة من الولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، وكان هدفُها وقف الانتفاضة، ومن ثَمّ تليها مراحل؛ وصولاً لحلّ الدّولتين. هذه المبادرة وافق عليها محمود عباس قبل أن يكون رئيساً وبعد ذلك، أما شارون أبدى بعض التحفظ عليها. "خارطة الطريق"، مع تعدّد الأطراف الراعية لها، وعرضِها على طرفي الصراع، فهي بذلك "أكثر واقعية"، وأوسع من "دِعاية القرن" التي أعلنها ترمب.

بناءً على ما سبق، فإن إطلاق "صفقة القرن"؛ ما هي إلا مجافاة للواقع، واللغة، والتاريخ. مؤتمرٌ بين نتنياهو وترمب في أمريكا، ويتم فيه إعلان رؤية ترمب "للسلام"، فهل هذا حقاً حدثٌ يستحق أن يتوّج على رأس مُجريات القرن! كلمةُ صفقةٍ في اللغة تعني أن طرفين اتفقا، ثم ضرب أحدهما على يد الآخر كإشارة رمزية على التوافق؛ فأين يدُ فلسطين في هذه الصفقة، فحتى اللغة لا تُجيز لنا أن نسمّيها كذلك. فيما يبدو فإن المبالغة في توصيف الحدث، وتتابع فصوله قبل إعلانه؛ كان هدفاً في حدّ ذاته.

في تحليلٍ للغة الخطاب التي استعملها ترمب في إعلانه عن خطته، فإن المؤشرات تشي بغلبةِ طابع الدعاية والعرض على فحوى كلامه. لم يرد اسم الولايات المتحدة إلا قليلاً، وحلّ مكانها لفظ الأنا وما يندرج تحته مثل تكرار (خطّتي، رؤيتي)، مع إجراء مقارنة، وتفضيل خطته على سابقيه من رؤساء أمريكا. اشتمل الخطاب على "منجزاته" الخارجية بشكل عام. تكرّر لفظ "إسرائيل" ما يُقارب العشرين مرة، وجاءت في سياق مدحها، والتأكيد على مصالحها، وما قدّمه من خدمات لأجلها. أما لفظ فلسطين و"الأراضي" الفلسطينية لم يتجاوز السبع مرّات، وغلب عليه استعمال لفظ "الفلسطينيين"، وكأنه عرق يستحق حياةً أفضل، لا سيادة وكرامة. أما جوّ التصفيق فقد نافس في كثرته حكّام العرب ومؤتمراتهم.

رؤية ترمب للصراع الإسرائيلي الفلسطيني بدأت واقعاً قبل الإعلان. سَحبُ أمريكا لكثير من دعمها المُقدّم للفلسطينيين، وتنصّلها من تقديم الأموال للأنروا، وهذا يعني ضمنياً عدم الاعتراف باللاجئين الفلسطينيين، وكذلك نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والذي يَتماهى مع الإعلان الجديد باعتبار بيت المقدس عاصمةً موّحدّة لإسرائيل. كلّ ما سبق مشمول بإعلان ترمب الأخير، لكنه دوما يسعى للبروباغندا في صناعة الحدث، لذا جزّأ خطّته بين الواقع والإعلان كأسلوب دعائي يبتغي منه مزيداً من التأييد من جهة، وحرفاً للأنظار من جهة أخرى، فجاء توقيت الإعلان تزامناً مع محاكمة ترمب برلمانياً.

هذه المبالغة في توصيف الحدث تعني مزيداً من الضغوط على الفلسطينيين، وتمنح بعض الأنظمة العربية "شرعية التطبيع" المُعلن مع إسرائيل. الفلسطينيون عُرض عليهم من قبلُ أكثر من هذا ورفضوا، لذا فإن أمريكا وإسرائيل تدركان رفض الفلسطينيين لها. التهويل الذي سبق الإعلان يرسم صورة بأن الفلسطينيين أضاعوا فرصة لا تتكرر، وهذا يُشرعن مزيداً من ضغوط إسرائيلية داخلية عليهم؛ عبر توسيع خطوات التهويد، مع قضم أموالهم المستحقة، وهذا يرافقه ضغط أمريكي متنوع الأساليب، وكذلك من أطراف دولية ورسمية عربية هي لإسرائيل أقرب منها لفلسطين.

هناك دولٌ عربية تنتظر فرصة سانحةً للجهر بطبيعة الحميمية التي تجمعهم بإسرائيل. المبالغة في الحدث التافه الذي أعلنه ترمب يخدم مآربهم ورؤيتهم المشتركة مع إسرائيل وأمريكا. المُبرِّرُ هذه المرّة تعنّت الفلسطينيين، وإضاعتهم للفرص، ومن هنا يتم الالتفاف عن المبادرة العربية للسلام، والتي جعلت بوّابة التطبيع تَمرّ من بوابة دولة فلسطينية تُقام على حدود 1967، ليتم بذلك القفزُ من النافذة، ويجري التطبيع بعيداً عن قضية فلسطين، فحضور سفراء الإمارات، والبحرين، وعُمان يأتي في هذا السياق. تُراهن أمريكا وإسرائيل على اتساع بقعة التطبيع، وهذا يعني حصاراً معنوياً ومادياً للفلسطينيين، ولعلّ ذلك يرغمهم على الإذعان والتسليم.

لعلّ كثيراً من أهل فلسطين يُدركون بأنّ إعلان ترمب الأخير، ما هو إلا نتاج طبيعي لمسار من المفاوضات، والتي لم ترتكز على أوراق القوة التي يمتلكها الشعب الفلسطيني، فلولا مسلسل التنازلات السابق، لما وصلت بهم الوقاحة لعرض تفاصيل مهزلة القرن. القيادة الفلسطينية إذا أرادت مواجهة دعاية ترمب الأخيرة، فإن ذلك يتطلب تغييراً جذرياً في رؤية السلطة لطبيعة الصراع مع إسرائيل، ويتْبعُ ذلك تغيير جوهري في الوسائل، فالرفض وحده لا يكفي، وحلولُ الترقيع المُجْتزأة ما هي إلا مسَّكنات، ولا تستأصل ورم المرض من جذوره. فإذا أدركنا أنّها ليست صفقة، وليست للقرن معلماً، فلعلّ الضجيجَ الذي أحاطها، وفَداحة التّجني الذي تحتويه؛ يُوقظُ ثُلّة من قومي حَلُموا طويلا، ولهثوا كثيرا خلف سراب "السلام المزعوم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.