شعار قسم مدونات

إيلون ماسك وتيسلا.. بين العبقرية والجنون

blogs إيلون ماسك

نيكولا تسلا، ذلك العالم والمخترع الصربي الفذ. كثير من الناس قد سمعوا بهذا الاسم وأقل من ذلك من يعرفون عن حياته وسيرته. البعض ربما قد سمع عن اختراعاته، عن محرك التيار المتناوب والاتصالات اللاسلكية، ربما البعض قرأ عن حياته وبداياته البسيطة في بلدته الفقيرة، عن نبوغه وذاكرته الخرافية، ثم هجرته إلى العالم الجديد. ربما قرأ البعض الآخر عن عمله مع مخترع آخر لا يقل عنه عبقرية توماس إيديسون مخترع المصباح الكهربائي ثم خلافه وحربه مع هذا الأخير.

  

حرب سجلتها كتب التاريخ باسم حرب التيارات، التيارات الكهربائية طبعا، حرب التيار المستمر مع التيار المتناوب، حرب انتصر فيها تيسلا أمام غريمه إيديسون بعد جهد كبير. حرب لم يكن لتيسلا فيها بداية أي حظ أمام غريمه. فابن البلد إيديسون كان صاحب الكلمة المسموعة وصاحب الحظوة عند رجال المال والأعمال وحتى الإعلام. ربما قد قرأ البعض عن أبحاثه الأخيرة قبل وفاته، حول الأمواج الراديوية والاتصالات وحتى عن الطاقة المجانية أو شعاع الموت ربما. ادعاءات نسجها حول نفسه في آخر حياته. اختراعات لو صحت فعلا لقلب بها تيسلا العالم رأسا على عقب. مازاد الأمر غموضا هو السرية البالغة التي ضربتها الحكومة الأمريكية حول أعماله ومصادرة مختبره بكل ما فيه من وثائق وأجهزة بعد وفاته، ما جعل أنصاره ينسجون حوله وحول أبحاثه كما هائلا من نظريات المؤامرة. مات تسلا حانقا وحيدا في فندقه بعد أن أصابه جنون الارتياب من العالم الذي حوله. صوره إعلام عصره بصورة العالم المجنون الذي يريد أن يدمر العالم بتجاربه الغريبة. ولم يعد له العالم اعتباره إلا بعد زمن من وفاته.

 

البعض ربما لم يسمع عن تيسلا سوى عبر سيارات الشركة الكاليفورنية الصاعدة، رغم أن صاحبها الملياردير إيلون ماسك لم يكن من مؤسسي الشركة الأوائل لكنه يرى في شخصه الكثير من شخصية تيسلا الحالمة والمتمردة. تشهد بذلك عصبيته البالغة وسرعة غضبه وتلعثمه في الكلام. رحلته لم تبدأ من صناعة السيارات.

 

ولد إيلون ماسك في بريتوريا بجنوب إفريقيا ثم تجنس بجنسية والدته الكندية ثم جاء الى أمريكا طالبا بالجامعة، لكنه ومثل الكثير من العباقرة لم يكمل دراسته، ترك متابعة شهادة الدكتوراه بجامعة ستانفورد ليلتحق بركب رواد فقاعة صناعة المعلومات منتصف التسعينات فدخل عالم ريادة الأعمال من بابه الواسع بعد أن أصبح من مؤسسي خدمة الدفع عبر الانترنت بايبال. استثمر الأموال الطائلة التي جناها من بايبال ليؤسس شركة سبايس إكس فقاده جنونه اللامحدود إلى روسيا بحثا عن صواريخ للبيع لاستعماله في برنامجه لغزو كوكب المريخ، لكن سخرية الروس منه والأسعار الخيالية التي طلبوها ثمنا لصواريخهم البالية جعلته يقرر أنه سيصنع صواريخه الخاصة، واضعا ثقته الكاملة في مهندسي شركته الناشئة.

   undefined

  

في ذلك الوقت لفت انتباهه مهندسان طموحان يريدان تغيير عالم صناعة السيارات. كانت شركتهما الناشئة تسلا تصارع للبقاء وفي حاجة ماسة للتمويل فاغتنم ماسك الفرصة ليأخذ زمام المبادرة ويصبح ممولا ثم شريكا ثم رئيسا للشركة. كانت الخطة واضحة منذ البداية بالنسبة إليه. إطلاق أول طراز لسيارة كهربائية رياضية بإنتاج محدود وبسعر عال يستهدف رجال الأعمال وأصحاب الأموال والمتحمسين لفكرة السيارات ذات الانبعاثات الصفرية من الأغنياء. الخطوة الثانية كانت استعمال أرباح الطراز الأول لإطلاق طراز ثان يكون عبارة عن سيارة سيدان مترفة تستهدف شريحة أكبر من الزبائن من الطبقة الميسورة على صعيد عالمي في أوروبا والولايات المتحدة وكمرحلة ثالثة استعمال أرباح الطراز الثاني لتصنيع سيارة اقتصادية من الحجم المتوسط بسعر يكون متاحا للعائلات من أصحاب الطبقة المتوسطة.

 

الطرازات التي أطلقتها تسلا كانت أيضا عبارة عن منصات لإطلاق أول تجارب القيادة الذاتية على نطاق واسع. فرغم أن جوجل وأوبر كانتا عمليا أول الشركات الرائدة في أبحاث القيادة الذاتية إلا أن تسلا لحقت بالركب بسرعة مذهلة لتصبح فعليا أول منتج لسيارات تجارية ذاتية القيادة. إضافة إلى ذلك ولمواجهة مشكلة محدودية شحن البطاريات عمدت تسلا لإنشاء شبكة ضخمة من محطات الشحن المجانية عبر كامل أمريكا الشمالية وأوروبا لتضمن منافسة السيارات التقليدية. تسلا موتورز التي انطلقت انطلاقة متعثرة وتواجه إلى اليوم مشاكل في تحقيق أرباحها نظرا للتحديات التقنية الهائلة التي واجهتها في ظرف قصير، نسجت من حولها بفضل عبقرية ماسك التسويقية شبكة ضخمة من المعجبين المخلصين لعلامتها التجارية تضاهي بذلك شبكة معجبي علامة آبل التي أنشأها ستيف جوبز.

 

إيلون ماسك تبنى الفكرة الأمريكية التي تقول: إن أردت حل مشكلة ما فأنشئ شركة لفعل ذلك

سبايس إكس بدورها التي انطلقت من العدم استطاعت في ظرف وجيز تحت إشراف ماسك تحقيق ما لم تستطع تحقيقه ناسا ووكالات الفضاء العالمية الأخرى. سبايس إكس التي جعلت هدفها الأول تقليل كلفة السفر إلى الفضاء استطاعت في وقت قصير أن تنافس الوكالات العالمية في إطلاق الرحلات الفضائية إلى مدار الفضاء المنخفض لتنافس برنامج سويوز الروسي وآريان الفرنسي وتصبح وسيلة ناسا الأولى لإطلاق أقمارها الصناعية منذ تعطل برنامج مكوك الفضاء في بداية الألفية. وصفة سبايس إكس السحرية كانت تخفيضا جوهريا لتكاليف الإطلاق وسجلا محترما للسلامة جعلت سمعة صواريخها من طراز فالكون في القمة. ولعل أهم انجاز حققته الشركة هو بناؤها لصاروخ فالكون 9 أول صاروخ نحو مدار الأرض المنخفض قابل لإعادة الاستعمال جزئيا علما أن الصواريخ التقليدية عادة ما يتم التخلص منها بعد استعمالها لمرة واحدة بعد أن تحترق في الغلاف الجوي للأرض بعد انتهاء عملية الإطلاق.

 

بفضل هذه الانجازات يبدو أن حلم ماسك بغزو المريخ بدأ يتحقق تدريجيا وذلك بعد بناء صاروخ فالكون هيفي وتجربته بنجاح ليصبح ثاني أقوى صاروخ عرفته البشرية بعد صاروخ ساتورن V صاروخ برنامج أبولو الذي سمح لناسا في الماضي بإطلاق روادها نحو القمر. فالكون هيفي الذي يمكن إعادة استعمال معززاته الصاروخية تماما مثل صواريخ فالكون 9 سيسمح نظريا في المستقبل بحمل شحنة بوزن 17 طن نحو مدار المريخ بكلفة منخفضة جدا مما سيساهم في السيطرة على التكاليف الباهظة لهذه الرحلة الجنونية.

 

وبما أن طموحات ماسك لا حدود لها، وضعت شركته تصميما لصاروخها الأقوى الذي أطلقت عليه اسم بيج فالكون روكت والقابل لإعادة الاستعمال كليا والذي سيكون جاهزا بحدود سنة 2023 لينقل أول سائح فضاء، رجل الأعمال والملياردير الياباني يوساكو مايزاوا، في رحلة نحو مدار القمر والتي ستكون الأولى من نوعها مند توقف برنامج الفضاء أبولو. هذا الصاروخ سيكون بمثابة رأس الحربة في برنامج سبايس اكس الجنوني لإعمار كوكب المريخ، والأكثر جنونا هو نية الشركة استعمال نفس الصاروخ كوسيلة للتنقل التجاري بين القارات حيث سيسمح بربط أي نقطتين على الأرض في زمن لا يتعدى النصف ساعة معوضا بذلك عن الكثير من رحلات الطيران التجاري الطويلة المدى التي قد يستغرق بعضها اثني عشر ساعة أو أكثر.

 

من جهة أخرى تنوي سبايس إكس استغلال هذه القوة الصاروخية الهائلة لإطلاق برنامجها المسمى ستارلينك والذي تتجاوز تكلفته 10 مليار دولار لربط الكوكب بأكمله بشبكة الانترنت عالية التدفق التجارية وذلك عن طريق إطلاق شبكة ضخمة من الأقمار الصناعية صغيرة الحجم يصل عددها إلى 12000 قمرا صناعيا كمرحلة أولى والتي ستسمح بربط المناطق النائية من الكوكب بالشبكة العالمية وبأسعار تنافسية تنافس أسعار موردي خدمة الانترنت التقليدية.

  

نجاحات إيلون ماسك لا تنتهي عند هذه الحد فطموحات الرجل تبدو لا حدود لها. إيلون ماسك تبنى الفكرة الأمريكية التي تقول: إن أردت حل مشكلة ما فأنشئ شركة لفعل ذلك. أنشأ ماسك شركة الحفر ذا بورينج كمباني لأنه يعتقد أن مستقبل التنقل في الكوكب سيكون عبر الأنفاق ووضع مع مهندسيه أول تصميم لما سماه الهايبرلوب وهو قطار أنفاق صمم للتنقل داخل أنفاق مفرغة من الهواء جزئيا، شغفه بالذكاء الاصطناعي وتطبيقاته على أدمغة البشر جعله يؤسس شركة نورالينك كما أن هاجسه بإنقاذ كوكب الأرض وتحويل مصادر الطاقة نحو مصادر بديلة جعله يؤسس شركة سولار سيتي.

 

إيلون ماسك يحتل اليوم حسب مجلة فوربس مراتب ريادية عل قائمة أغنى رجال الأعمال وأكثرهم شهرة ونفوذا في العالم. إنجازاته جعلته محط أنظار رجال السياسة والإعلام ومحل إعجاب الملايين. عكس نيكولا تيسلا كانت عبقريته وذكاؤه وتقلب مزاجه مدعاة لجذب احترام معاصريه. ربما لأن التاريخ لا يعيد نفسه دائما كما يظن البعض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.