شعار قسم مدونات

في حضرة الأشقر الغاضب (2)

blogs إيمينم

منذُ سنتين وتحديداً في اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني قمتُ بالكتابة! وقمتُ بحديثِ نفسٍ خلقَ مقالاً يدورُ حول المذكورِ أعلاه. تحدّثتُ بإسهاب عن الأشقر الغاضب -كما يسمّي نفسه- أو عن مارشال ماذرز، وتحدّثتُ عن موسيقاه وعن كلماته في هذه الموسيقى، وتحدّثتُ عن سوءِ الفهم الحاصل -وعلى الدوام- اتجاه هذا الخلق العجيب من خلق الله جلَّ وعلا.

  

وعلى الجانب الآخر تحدّثتُ عن تأثير موسيقى مارشال على العبد الفقير الذي يكتب هذا المقال! وحاولتُ أنْ أفاضل بين خير هذا التأثير وشرّهِ عليّ، وكي لا أطيل، قررتُ إكمال ما بدأته، وقررتُ أنْ أتحدّث بوفرةٍ تحليليّة عنه هذه المرّة وعن تداعيات موسيقاه في الآونة الأخيرة والتي هزّت أوساط عالم الراب على وجه الخصوص.

  

في أواخر سنة 2017، طُرح ألبوم مارشال في الأسواق وقدْ حملَ عنوان "إحياء"، وقدْ كانَ إحياءً بالفعل، فقدْ تناول هذا العمل الجانب العاطفي في مارشال، والذي أظنُّ أنَّه كان ميتاً في الخفاء لفترة طويلة جدّاً، وأتى أوانه ليرى النور من جديد في هذا الألبوم الجيّاش بهذه العواطف.

 

تطرّقَ مارشال للكثير من الأمور المعقّدة في حياته، وأهمّها فترة إدمانه والتي كادت أنْ تودي بحياته! إهماله لابنته لفترات متقطعة، طلاقه من زوجته كيم، وإلى الكثير من الأحداث الجلل في حياته، بمعنى آخر، كانَ هذا الألبوم عبارة عن كتلة من ردود الأفعال العاطفية لكل ما واجهه من صدمات، وتعثّرات، وكانَتْ في غايةِ العمق من جهة الطرح، وغاية في التعقيد من جهة التحليل والتفكيك.

  

حاولَ مارشال أنْ يُضفي على ألبومه طابعاً يتأرجحُ بين الصدق وبين العاطفة، وهذا على خلاف ما يطرحُ عادةً، فهو ذلك الغاضب المتمرّد الذي يتحدّى العالم -إنْ صحَّ التعبير- والذي لا يأبه بالنظام الذي يحكمه! فقد قال في أحد أغانيه بعنوان Legacy: I don’t belong to this world, thats why I’m scoffin at authority defiant often، فهو يُعلن عدم انتمائه لهذا العالَم -على غرار كولن ولسن- لذلك دائماً ما يسخر من السُلطة وأحياناً يتحدّاها.

      

  

سأنتقلُ الآن إلى ما بعد "إحياء" أو Revival، فهذه الفترة هي صُلْب هذ المقال، فتاريخ مارشال على مدى أكثر من عشرين سنة في كفّة، وما فعله في آخر سنتين في كفّة ثانية! وكأنّنا نتحدّث عن الفلسفة ما قبل نيتشه وما بعده، فقدْ كانتْ شيء وما بعده صارتْ شيئاً آخر، فنيتشه ذلك الذي تنبأ بسير الحضارة الغربية إلى العدم، على كلِّ حال، دعونا مع مارشال الآن. لمْ يحظى Revival بالنقد البنّاء، بلْ واجه انتقادات أنزلته إلى الحضيض سواءً من موسيقيين متخصصين في المجال أمْ من عوام النّاس! الأمر الذي أجبرَ مارشال على إصدار ألبوم مباغت دون أيّ إعلان مُسبق، وأطلقَ عليه اسم Kamikaze، وهذا الاسم كانَ يُطلق على الطائرات اليابانية الانتحاريّة إبّان الحرب العالميّة، واختيار مارشال للاسم يدلّ على دخوله الانتحاري هذا ردّاً على كلِّ من انتقده، وفيه أيضاً إخبار وإعلام أنَّ القادم هو تدميري محض.

   

وفي جَنَباتِ هذا العمل العجيب، مزّقَ مارشال كل الحاقدين، الناقدين، واللائمين له على تراجع مستواه بشكلٍ عام، فقدْ كانَ هذا العمل هو بمثابة إثبات على أنَّ مارشال القديم لمْ يمتْ ولنْ يمتْ! فهو باقٍ ما دام فيه نفس! فاستطاع مارشال أنْ يُثبت أنَّ عبقريّته لم تذهب أدراج الرياح، بلْ على العكس من ذلك تماماً! فقدْ تطوّرت ونمتْ بشكلٍ مُرعب أيّها القارئ، فلدى هذا الرجل قدرة غير عاديّة على إعطاء معنيين مختلفين في نفس الجملة باستخدام ال Homophones، وهذا التعبير يُستخدم عندما يكون الصوت نفسه لكلمتين باختلاف المعنى، وفي هذا السياق له المئات من المفردات والتعبيرات المذهلة حقّاً.

   

الجانب الآخر من هذا المبدع هو الزخم فيما يطرح، لذلك ولطالما قلتها أنَّ هذا الرجل يستحقّ أطروحة لوحده لعرض تاريخه وموسيقاه وتفكيكها وتحليلها، فخطابه زخم جدّاً ومركّب جدّاً وفي كلَّ مرّة كنت أُنصت له وأقرأ الكلمات كنتُ أخرجُ بتصوّرٍ جديد، وبمقصدٍ لمْ أكنْ قدْ أدركته في البداية! الغضب في الأداء والتمرّد صفة أصيلة فيه، ولكنّها وصلتْ عنان السماء مع آخر ألبوم، ففي هذه الأثناء وأنا أكتبُ المقال أصدرَ مفاجأة أخرى بعنوان Music to be murdered by، والاسم مستوحى من المخرج العبقري Alferd Hitchcock، وهذا الألبوم هو بمثابة مسمار نعش لكلِّ من تجرّأ عليه، وقدْ برّرَ مارشال هذا التأخر بالردّ كالآتي:  You didn’t hit my rader, you’re so far away، فهذا التهكّم وهذه السُخرية حقيقة مرّة عليهم القُبول بها شاء منْ شاء وأبى من أبى.

   

وسأختمُ المقال قولاً واحداً، أنا لمْ أكتب هذه الكلمات إلّا لتوضيح مسألة الشغف أو الهوس بشيء كان ما كان! ففي نظري أنَّ مارشال من هذا النوع من المهووسين المخلصين لما يفعل، فقدْ قالوا فيه: He treats rap like a regular job، حياته في الغناء ولا يعرف شيئاً غير الغناء والكتابة وقراءة القواميس لإثراء مخزونه اللغوي، فهو الذي قال: I don’t even shower, I just rap! فما أردتُ إيصاله أنَّ التركيز والإخلاص بصدق في أيِّ مجالٍ كان سيجعلك تصل إلى النّاس، وهذا ما فعله مارشال، فهو يعمل فقط! وهذا هو موقفه أمام العالَم، موقف الفيلسوف من الحياة والموت مثلاً! وما قال آينشتين: العفوية هي العبقريّة! وقليلٌ منّا العفوي الذي يظهر بشخصه كما يفعل مارشال ويقول ما عنده بتمرّد وغضب صادقين.

   

لا تأخذوا المقال على أنَّه دعوة لاتّخاذ الرجل قدوة أو ما شابهَ ذلك، بلْ هو تحليل لعبقريّة تركيبية كانَ لا بدَّ من طرحها، وما قدّمه هذا الرجل يستحقّ النظر، وقدْ قالها صديقٌ لي: نحن محظوظون أنّنا عاصرنا عبقريّة كهذه، والسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.