شعار قسم مدونات

سلمان العودة.. مثال عن مأساة أمة

BLOGS سلمان العودة

يحدث أحياناً أن تتجسد مأساة أمة كاملة في حكاية شخص واحد مثل سلمان العودة؛ لم يحمل سلاحاً ولم ينتقد حكومةً ولم يدعُ إلى عصيان شعبي وحاول دائماً إمساك العصا من منتصفها حتى لا يغضب منه المتنفذون وأصحاب القرار، لكنَّه رغم كل ذلك مرميٌّ اليوم في زنزانة وحيداً وقد أعياه المرض وتقدم السن، ومهدد بالإعدام بين حين وأخر، وكل ذلك بسبب تغريدة كتبها في موقع تويتر دعا فيها الله بأن يؤلف بين قلوب حكام المسلمين لما فيه خير شعوبهم! كانت تلك التغريدة العفوية البريئة سبباً كافياً للمتنفذين ليجعلوا كاتبها مجرماً مغضوباً عليه! أرأيتم إلى أين وصل الحال بالمسلمين اليوم؟

 

منذ متى صار دعاء الله جريمة يستحق فاعلها السجن والتعذيب والإعدام؟ منذ متى صار دعاء تأليف القلوب بين المسلمين من كبائر الإثم؟  أجيب: منذ أن اعتقد بعض حكام المسلمين بأن لهم الحق بالدوس على كرامات الناس وسلبهم حرياتهم وملاحقتهم ومراقبة ما يكتبونه حتى على صفحاتهم الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي!

 

سلمان العودة رجل يتابعه ملايين الأشخاص حول العالم، وتأثر بفكره الكثيرون في بلده الذي وُلد فيه وخارجه، لكن أولئك لا يملكون له اليوم إلا الدعاء بصوت خافت لا تسمعه الحكومة حتى لا يلاقوا ذات المصير الذي يلاقيه شيخهم سلمان اليوم، فهم تعلموا درساً من الحكومة مفاده بأن الدعاء إلى الله يجب أن يرضي في شكله ومضمونه الحكومة وإلَّا عُوقب صاحبه بالحبس والعذاب وربما الإعدام!

 

أكثر ما أخشاه أن نسمع اليوم أو غداً رحيل سلمان العودة كما رحل الكثيرون من قبله بذات الطريقة، وفي تلك اللحظة لن يشفع للصامتين اليوم ندمهم_ هذا إن كانوا مازالوا يحتفظون ببقية من مشاعر إنسانية

لا نسمع صوت زملاء الشيخ سلمان العودة اليوم، فهم الأخرون أغمضوا أعينَهم وأصموا آذانهم منذ اللحظة الأولى التي سمعوا فيها بمصير زميلهم المحزن، فهم يخافون على أنفسهم من مصيرٍ مشابه، لذلك فضلوا إيثار سلامتهم الشخصية على المبادئ الدينية والأخلاقية التي يتباهون بالدعوة إليها، وما نفع مبادئ لا تسمح لحاملها بأن يكون حراً في التعبير عن رأيه؟!

 

ما نفعُ مبادئ دينية لا تقود صاحبها إلى تغليب الحق والحقيقة على الظلم والبهتان؟ ما نفع مبادئ دينية لا تقود صاحبها إلى الاقتداء بأصحاب رسول الله الأوائل في بداية دعوته في مكة، أولئك الضعفاء الفقراء المساكين الذين تحدوا بإيمانهم جبروت سادة مكة الأشقياء؟ ما نفع مبادئ دينية تجعل صاحبها يخاف الناس أكثر من خوفه من الله؟ ما نفع مبادئ دينية لا يقتدي حاملها بأبي بكر حين خرج مع رسول الله من مكة مرغمين لأنهم لم يتنازلوا عن قيم الرسالة التي آمنوا بها؟

 

إنَّ المبادئ الدينية التي يعلمنا إياها كتاب الله لا يمكن أن تُكوِّن إنساناً خنوعاً جباناً خائفاً من قول الحقيقة، فهذا كتاب الله يضرب لنا مثالاً خالداً عن رجل تجرأ بدافعٍ من إيمانه ليقول لفرعون وملئه بأنهم يخطئون حين يعتبرون رسول الله عدواً لهم، جاء ذلك الرجل ليقول الحقَّ عالماً بما يمكن أن يترتب على قوله من نتائج قد تنتهي بقتله، لكنَّ الإيمان الذي كان يحمله في قلبه كان أكبر من كل مشاعر الخوف من النتائج: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ" غافر 26_28

  

قصة سلمان العودة المؤلمة بكل تفاصيلها تكاد تلخص لوحدها حال أمة تعيش اليوم على ذكريات وأمجاد الماضي، أمة مشتتة مفرقة يحكم أجزاءها طواغيت ما كانوا ليصلوا إلى السلطة لو لم يتعهدوا لمن أوصلهم بسحق كرامة شعوبهم وقتل أنفاس الحرية في بلدانهم، قصة سلمان العودة المحزنة تلخص لوحدها مأساة أمة لا يجرؤ علماؤها على قول الحقيقة أمام رجال السلطة والمتنفذين والأغنياء، ويحصرون الدين فقط في حكايا شعبية وقصص ملحمية يشغلون بها شعوباً متدينة بالفطرة.

  

لا أستطيع غضَّ النظر عن آلام شخصٍ حاول فقط أن يكون دعاؤه وسيلة تشجيع لتجميع شيءٍ مما تفرق من أمته، ولا أسامح نفسي إن لم أبين موقفي من قضية إنسانية كهذه، وأكثر ما أخشاه أن نسمع اليوم أو غداً رحيل سلمان العودة كما رحل الكثيرون من قبله بذات الطريقة، وفي تلك اللحظة لن يشفع للصامتين اليوم ندمهم_ هذا إن كانوا مازالوا يحتفظون ببقية من مشاعر إنسانية، أنا واحدٌ من أبناء هذه الأمة المقهورة، لذلك لا أريد أن أبدوَ قاسياً في طرحي، لكنَّ قصة سلمان العودة ترسم لنا حالاً محزناً لأمة أرجو أن تعود في أقرب وقتٍ إلى ذاتها وموقعها الطبيعي بين الأمم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان