التعليم حاجة أساسية تسمح للإنسان أن يرتقي بتفكيره ويساهم في قيادة مجتمعه إلى مكان أكثر سموا وأرفع منزلة ولكن السؤال هل التعليم حقا هو ذلك المكان الضيق الذي يسمونه مدرسة؟ وهل على الجميع أن يخضع للإقامة الجبرية ثمانية أشهر في السنة لمدة لا تقل عن ستة عشرعاما على أقل تقدير ليخرج إلى العالم على أنه إنسان متحضر وأرفع درجة من الحداد أو الميكانيكي أو الرسام أو الموسيقي
لا شك أن المجتمعات تضم آلاف الأطباء العباقرة والمهندسين المبدعين والأساتذة النوابغ ولكن هل الحاجة إليهم تفوق الحاجة إلى حرفيين وصناع وعمال وفنانين؟
لم ينظر إلى المدرسة على أنها المكان الأكثر رقيا في حين ينظر إلى المهنيات والمدارس الصناعية على أنها المكان الذي ضم أسوأ النماذج من الطلبة ولعل ذلك هو الممارسة الحقيقية التي يقوم فيها الأهل حيث يختبرون قدرة أبناءهم على خوض التعليم بصورته النمطية غير آبهين بميول أطفالهم التي قد تكون تعليمية ولكن ليس بالمعنى المفروض الذي يفضل الأهل قولبتهم فيه. بعض الأطفال لديهم ذكاء مهني خاص لا يستطيعون التعامل مع المعلومة المجردة ولا تغريهم الفكرة التي تسكن الكتب يحبون ملامسة الأشياء بأيديهم يتحسسونها ويضعون عليها بصماتهم.
إذا أردنا حقا الخير لأبناءنا علينا إعادة النظر في سلوكنا والتعامل مع الذات البشرية على أنها كيان مستقل لديها مواهب خاصة للغاية ووظيفتنا هي إضاءتها بالشكل الصحيح |
كم هائل من الشخصيات تمر أمامنا على اليوتيوب منهم من حول الطهي إلى فن بديع ومنهم من أعاد تدوير الأشياء على نحو استثنائي يثير العجب ناهيك عن الأشخاص الذين تخرجوا من المدارس والجامعات ثم بعد ذلك اكتشفوا أن ميولهم بعيدة كل البعد عن ما تعلموه في المدرسة والجامعة فلماذا نخضع أبناءها لذلك المسير كله ونتركهم يخسرون السنين والأيام مكرهين على فعل لا يحبونه ومكان لا يستسيغونه في حين أنهم يحملون طاقات ومواهب عظيمة تبقى حبيسة النفس إلى أن تتلاشى أو يكتشفها أصحابها مصادفة.
هل يعي الوسط التعليمي المسؤول حجم الخسارات التي تمنى فيها مجتمعاتنا كل يوم نتيجة هذه القولبة؟هل يراقبون حجم الأزمة التي يفرضونها على المدرّس لكي يوازي بين النماذج المختلفة من الطلبة؟ هل يدركون كمية الإحباط الذي يزرعونه في نفوس طلبتنا كل يوم وهم يحاولون جاهدين إنزالهم غير المنازل التي خلقوا لها؟ هل يدرك الأهل حجم الفجيعة التي تطال أبناءهم عندما يرتبون علاماتهم المتدنية بعد أن بذلوا جهدهم لفهم ما لا يفهم بالنسبة إليهم؟
هذه الجريمة المستمرة جعلتنا نخسر شريحة عظيمة من الطلبة إذا لم يتوجه المسؤولون في هذا المجال إلى تبني الأمر بشكل جدي إضافة إلى حملات التوعية الجماعية التي يجب أن يتم التوجه من خلالها إلى الأهل على وجه الخصوص للحد قدر الإمكان من انتشار الكارثة. عندما يتوجه أبناءنا إلى الألعاب الالكترونية ليس علينا النظر إلى الأمر على أنه وباء أصابهم ولكن علينا النظر إليه على أنه إشارة لنا نتيجة إجبارهم على ما لا يستهويهم فكانت ردة فعلهم المتاحة هي الهرب إلى العالم الافتراضي بحثا عن ملهيات تبعد عنهم شبح الإحباط والاكتئاب فالخطوة الصحيحة في هذا الوقت هي دراسة الطفل من جديد ومحاولة فهمه والسير معه إلى حيث يستطيع الإبداع بدلا من الوقوف في وجهه حتى تتلاشى شخصيته ويتحول إلى خروف مثالي في حظيرة التربية والتعليم.
الكلام مهما كان منمقا ومدروسا فهو يدور حول المشكلة والعمل الجدي هو الوحيد القادر على تعديل المسار لإنقاذ الأجيال القادمة لعلنا نحصل على أجيال ضاحكة فعالة بدلا عن الروبوتات الناطقة التي تطوف البلاد على غير هدى وبلا هدف. هذه المشكلة تتنامى بسرعة ولا تجد من يحاول الحد منها وبالغالب يكون رد الفعل الممارس هو التجاهل والتذمر وتحطيم الطفل إما نفسيا وفي حالات أخرى جسديا والتعامل معه على أنه شخص غبي أو غير سوي محاولين فتح غطاء رأسه وتعبئته بالمعلومات العظيمة المرادة لندور في نفس الدائرة التي دار فيها آباؤنا من قبل. في النهاية إذا أردنا حقا الخير لأبناءنا علينا إعادة النظر في سلوكنا والتعامل مع الذات البشرية على أنها كيان مستقل لديها مواهب خاصة للغاية ووظيفتنا هي إضاءتها بالشكل الصحيح لنحصل على المراد ونحمي أطفالنا من الإحباط والفشل المتوقع إذا استمرينا على نفس النهج.
ملاحظة: السمكة لا تطير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.