"لا نحقق الأعمال بالتمنيات، إنما بالإرادة تُصنع المعجزات" هذا ما قاله ماو تسي تونغ مؤسس جمهورية الصين الشعبية قبل أكثر من سبعين عاماً، واليوم في الأول من أكتوبر تحتفل الصين للمرة الحادية والسبعين بذكرى تأسيسها، وسط تحديات جسام وعام استثنائي ليس بالنسبة للصين وحسب بل للعالم أجمع، إن تاريخ الصين الممتد لآلاف السنين لم يكن ممهداً بالحرير كما يظن البعض، بل تخللته صعوبات وحروب وغزوات لم يكن من السهل تجاوزها لولا الإرادة الواعية والعمل الجاد للشعب الصيني.
تمثل الصين فرصة شاخصة ومثال حي لاستقاء الدروس منها، سواءً فيما حققته من نجاحات وصولا للاستفادة من الاخفاقات والأخطاء أيضا، والمرونة التي تتحلى بها لتجاوز العقبات والتعامل مع التحديات، لقد واجهت الصين ما وصفه المؤرخون بأقذر حرب في التاريخ، وهي "حروب الافيون" التي اندلعت خلال القرن التاسع عشر بين الصين من جهة وبريطانيا من جهة أخرى، وانضمت إليها في المرة الثانية كل من فرنسا وروسيا والولايات المتحدة.
وسبب تلك التسمية يعود إلى أن الهدف المعلن لتلك الحروب هو "السماح بزراعة وتصدير الأفيون وبيعه في الصين!! " كرد فعل على منعه ومحاربة انتشاره، على عكس ما يتم إعلانه من مسوغات لشن الحروب والتي تكون مغلفة بحسن النية كنشر الديمقراطية مثلا، في حين أنها تبطن أسبابا أخرى كالاستيلاء على الثروات والسيطرة على القرار السياسي.
لقد عانت الصين من تنمر الدول العظمى وغزوها والتحكم في قرارها السياسي، وهو ما حدث منذ مدة قريبة في تاريخ الشعوب، كما تم إجبار الصين -على إثر هزيمتها في تلك الحروب- على استيراد الأفيون والسماح ببيعه ونشره بين الصينيين حتى أصبحت غالبية الشعب مدمنة تعاني الضياع مغلوبة على أمرها بالمعنى الحرفي للكلمة، ناهيك عن إجبار الصين على القبول بحزمة واسعة من التنازلات والخضوع الكامل للدول العظمى حتى الاذلال، إلى أن تنازلت الصين عن هونغ كونغ لبريطانيا لمدة 99 عاما وبالمجان.
عانت الصين بعد ذلك الأمرّين، فكيف لشعب مدمن للأفيون مغيب تماما عن الواقع أن يسهم في بناء وطنه والحفاظ على مكتسباته، فظلت الصين تترنح لسنوات طوال عاجزة عن فعل شيء أمام تدفق الفضة وهي العملة الثمينة والتي كانت سببا من أسباب الحرب، فعوضاً عن أن تدفع بريطانيا بمخزونها من الفضة للصين لقاء السلع التي تستوردها كالشاي والحرير والبورسلين، أصبحت تتحصل عليه من الصين في هجرة عكسية كثمن للحصول على المخدر، بعد أن رفض الامبراطور الصيني تشيان لونغ العرض الذي جاء به مبعوث ملك بريطانيا مكارتني بشأن "توسيع العلاقات التجارية بين البلدين" قائلا له ان الصين ليست في حاجة لاستيراد سلع أخرى من البرابرة.
تلى ذلك فترة تقهقر فلم تكن الصين تملك قرارها، وأضحت دولة هامشية ليس لها دور مؤثر في الأحداث السياسية خلال تلك الحقبة، وقد تم استغلال الشعب الصيني حينها وتشغيله فيما يشبه السخرة لدى التجار البريطانيين، إلى أن جاءت اليابان أخيرا وقامت خلال عهد ميجي بغزو الصين واحتلالها وإجبارها على التنازل عن أراض شاسعة فضلا عن دفع تعويضات مالية وتقديم تسهيلات تجارية لليابان.
لكن كل تلك الأحداث المأساوية لم تشكل نهاية التاريخ الصيني، بل ولم تمنع التنين الصيني من نفض الغبار من على أكتافه لينهض ثانية، ففي نهاية الأربعينات من القرن الماضي قام ماو بتأسيس الصين الحديثة، وانتشلها من الضياع الكامل إلى أن تبوأت الآن مكانة مرموقة على الخارطة الدولية، ورغم الأخطاء التي ارتكبها ماو والسرعة في تنفيذ القفزة وهو ما ألقى بظلاله على الوضع الصيني بعد ذلك لسنوات، إلا أنه استطاع تجاوز العقبات بمرونة، وتصحيح مسار النهضة وهو النهج الذي سار عليه القادة اللاحقون، فالأخطاء التي ارتكبها ماو كانت بمثابة الحجر الذي ألقي في المياه الراكدة، والاخفاقات التي واجهها مثلت دروساً لمعرفة الطريق الصحيح وتقويم النظرية سعياً لتحقيق الهدف الأسمى الذي ينشده الجميع على اختلاف أفكارهم ونظرياتهم، وكما قال العالم توماس اديسون "أنا لم أفشل، لقد اكتشفت عشرة الآف طريقة لا يمكن للمصباح العمل بها".
لم يقنط الشعب الصيني ولم يفقد الأمل ولم تنطفئ شمعة الارادة بداخله، فالصينيون رغم تبجيلهم لماو إلا أنهم يشيرون بشجاعة تستحق الإعجاب لأخطائه واخفاقاته ويحاولون استقاء الدروس منها، وأهم درس قدمه ماو لشعبه خلال مسيرته الشاقة هو التأني وعدم الاستعجال في تحقيق النهضة، فقد قيّم الصينيون الآثار السلبية التي تمخضت عن مشروع ماو" القفزة العظيمة للأمام" فأعادوا ترتيب اوراقهم مع عدم اتباع الإرث حرفيا، لأن الإرث قد لا يتناسب مع الواقع، والأهم من هذا وذاك هو السعي والعمل والمحاولة بدل الاستسلام والركون والتقاعس.
إن نظرة الصينيين لإرثهم وتراثهم متميزة، فهم بجانب اعتزازهم بالإرث والتقاليد إلا أنهم لا ينظرون لتاريخهم وماضيهم بنظرة التقديس، بل هي نظرة احترام وتقدير مشوبة بالنقد والتصحيح، كما أنهم استطاعوا ان يدوسوا على جراحهم ويعبروا مرحلة تاريخية حرجة وتجربة مؤلمة نحو افق أوسع، فها هي الصين دولة فاعلة في المجتمع الدولي تتعاطى ندا لند مع الدول التي أخضعتها سابقاً وأجبرت شعبها على الإدمان، وفي ذلك عبرة ودرس يؤكد أنه لابد للتاريخ أن يمضي ولابد للجرح أن يندمل، فأحقاد التاريخ ما هي إلا عقبة متوارثة تثقل كاهل الأجيال.
لقد تمكنت الصين من تجاوز العقبات بإجراء الاصلاحات على النظريات عند ثبوت فشلها، فلم يعز الصينيون الفشل للتطبيق مع استمرارهم في تقديس النظرية، بل انهم استطاعوا تحقيق النقد الذاتي وتصحيح مسار نهضتهم واجراء مراجعات سواءً على التطبيق او النظرية وهو ما جنبهم ما مر به الاتحاد السوفييتي من انهيار، فاستفادوا من اخطاء الآخرين دون الوقوع فيها وتبنوا "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" لتحقيق نهضتهم، على الرغم من ان البعض يراها تلاعبا بالألفاظ، إلا أن الصين اعتبرت ذلك تلونا على الطريقة الغربية، والغاية تبرر الوسيلة، إن الحديث عن نهضة الصين يطول ولن يتسع المقال للإحاطة بكافة جوانبها والحديث عن إيجابياتها وما يشوبها من سلبيات، ولكن، كيف لنا كأمة عربية ان نستخلص العبر من تلك التجربة، او غيرها من تجارب الامم والشعوب.
في محاضرة له شبه المفكر القطري الدكتور جاسم السلطان المتذرعين بوجود مؤامرة كونية تقف حائلاً دون نهضتهم بفريق كرة القدم الخاسر، والذي يعزو خسارته لرغبة الفريق الآخر بالفوز، فالخصم ينشد الفوز ويسعى لتحقيق الانتصار لامحالة، والامم تتآمر على بعضها طالما وجدت أرضا خصبة لذلك، أما الأسباب الموضوعية فمنبعها الداخل، والروح الانهزامية والاستعداد للفشل أبرز سماتها. إن الحروب والغزوات ونشر المخدرات لم تعد ذات جدوى في العصر الحديث، والمساعي لإخضاع الدول والأمم والشعوب بصورتها الكلاسيكية القديمة أصبحت نادرة ومن الماضي، فيكفي لإفشال مساعي أمة للنهوض والتقدم بث روح الهزيمة والقهر في شبابها وأجيالها، وإشغاله عبر الوسائل السلمية واللطيفة بتوافه الأمور وغمسه عنوة في الملذات والسخافات.
تمثل الشعوب العربية من المغرب العربي إلى شرق سواحل الجزيرة العربية قلقاً دائما لبعض الدول، فمن المغرب إلى قطر تتخاطب الشعوب بلغة واحدة وتدين بدين واحد في الغالبية العظمى، وعلى نقيض تلك المعطيات لو قدّم أحد شباب الأمة تلخيصا لواقعها لبدأ كلامه بعبارة "نحن العرب" ثم تبعها بكيل التهم وأقذع الصفات، وهو بكل أسف لا يعلم أن ما يتفوه به ما هو إلا نتيجة حتمية لسنوات من العمل الدؤوب لتحطيم إرادة الشباب وعزيمتهم وتشويه الصورة الذهنية عن أنفسهم، من قِبل من يرون أن نهوضنا يشكل خطراً عليهم، نحن لم ندرك بعد أن عجزنا نابع من داخلنا، وأن التآمر علينا لن يتم دون أن يجد له ملاذاً آمناً في واقعنا، وان التقادم الزمني لا يعني حتمية النهوض دون إرادة واعية، وأن تغيير المجتمع يبدأ من إدراك الأفراد لضرورة تغيير أنفسهم، إن الظروف التي سبقت نهضة الصين أقسى واشد مما تمر به امتنا، الا ان الصين تمكنت في النهاية من تحقيق نهضتها بالإرادة والعمل، وعند عقد المقارنة بين واقعنا وتلك الظروف، سنجد ان ما يجمعنا يفوق ما يفرقنا، وان أسباب نجاحنا تتجاوز مسببات إحباطنا، وان فرص النهوض بالرغم من الصراعات التي تمر بها منطقتنا موجودة ووافرة، علينا فقط استشعار مكامن القوة فينا وتوظيف امكاناتنا وحسن استغلال مواردنا.
يقول غاندي " كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه ف العالم"، ان الرهان متوقف على الفرد ونظرته لذاته، وإدراكه لأهمية وضرورة السعي نحو المعرفة والتنوير، وعدم السماح بالتلاعب بوعيه وتوجيهه وحشوه بالأفكار والمعتقدات والقيم دون تمحيصها وعرضها على العقل بفكر نقدي مستنير، لابد من إدراك أن التغيير يبدأ من الانسان، ودون التفكير خارج الصندوق والتنبه لكل ما يحيط بنا لن نستطيع تحقيق ما نصبوا إليه، علينا الايمان بأنفسنا والنظر إلى دواخلنا وإدراك أن تغيير ما بالداخل كفيل بتغيير كل ما هو بالخارج، وأن الشعوب المغيبة الغارقة في الملذات وسفاسف الأمور لن تدرك النهضة ولن تقترب منها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.