تقف منطقة الشرق الأوسط على أعتاب مرحلة جديدة، عنوانها الأبرز "مواجهة أمريكية إيرانية مباشرة"، بعد انتهاء مرحلة الوكلاء، وذلك باغتيال واشنطن قائد فيلق القدس بالحرس الثوري، الجنرال قاسم سليماني، فجر الجمعة، ففي ظل معطيات الهدف، أي سليماني، والمكان وهو العراق ذو الأهمية الاستراتيجية الكبيرة لدى الطرفين، فضلا عن التوقيت، الذي يأتي مباشرة بعد تحقق فشل التعويل الأمريكي على الاحتجاجات الشعبية، التي عمّت لبنان والعراق وإيران مؤخراً، في الضغط على الأخيرة وتقليص نفوذها؛ فإن المواجهة المباشرة قادمة، ولا يبدو أن إرسال آلاف الجنود الأمريكيين عبر المحيطات إنما هو لتأمين سفارة واشنطن لدى بغداد وحسب. يعيد هذا المشهد طرح أسئلة عن خلفيات الصراع بجميع أبعادها، لا سيما الجيوسياسية منها، وأخرى عن شكل الصدام في المرحلة المقبلة، والأهداف التي يسعى كل طرف تحقيقه خلالها.
اتسمت العلاقة بين الولايات المتحدة الامريكية وإيران منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية بعد ثورة 1979 بالعداء، حيث صاغت إيران منذ ذلك الحين لنفسها مشروعاً داخلياً وخارجياً لا ينسجم، بل ويتناقض مع المشروع الأمريكي في المنطقة، وقامت أسس هذا المشروع على مبدأ استقلالية إيران التامة وفرض أحقيتها في الحفاظ على مصالحها الخاصة وفق لرؤيتها، ولم تقبل بالهوامش والمساحات التي تتركها لها المنظومة الدولية وخاصة الولايات المتحدة.
فعمدت الجمهورية الإسلامية لتأميم شركات النفط والموانئ والمشاريع الوطنية الاستراتيجية الكبرى، ومنذ البداية، صاغت الثورة الخمينية مشروعاً خارجياً ينتمي لفكر الثورة ويعمل على تصديرها وهو في جوهره يهدف لاستعادة المصالح والموارد الأساسية من هيمنة القوى الأجنبية، بل وتعدى مشروعها الخارجي ذلك ليشمل فلسفة ورؤية ثورية عالمية بمناصرة المستضعفين والذي يفهم منه مناهض الهيمنة الغربية ولاحقاً التفرد الأمريكي. وفي السعي لذلك، استطاعت إيران عبر العقود الأربع الاخيرة أن تحافظ على قدر كبير جداً من الاستقلالية ولعبت دورا خارج المنظمة الدولية المعترفة بمركزية الغرب في قيادة العالم، وحددت أهدافها في أن تكون قوى إقليمية في مجالها الحيوي ويمكن القول إنها فرضت ذلك.
لم تكن المنظومة الغربية وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية متقبلة لتلك الاستقلالية وعملت طوال الوقت للحد من النفوذ الإيراني، إلا أن حسن تقدير طهران لموازنين القوة وامتلاكها لأوراق قوة محصنة من العامل الأجنبي مكنها من المناورة والصمود بل والتقدم في كثير من المراحل.
ومن ذلك أيضاً، أن إيران تجنبت دائماً المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة وأتقنت بمهارة عالية اللعب على الحواف الخطرة، وعملت على تحصين موقفها بنظم شبكة من العلاقات الدولية القائمة على المصالح وعززت مكانتها لدى دول كبرى كالاتحاد السوفيتي سابقاً ثم روسيا والصين والهند، كما أنها استطاعت أن تجد لها مساحة في التمايز بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وكونها تنتمي لنادي كبار المصدرين للنفط والغاز فذلك يعني أنها تجيد لغة المصالح.
وفي منظومة الحكم، أنتجت الجمهورية الإسلامية نظاماً فريداً خاصاً بها وحصنته بمنظومات ومؤسسات أقرب للبناء الإيديولوجي الرسائلي يتمثل بمؤسسة الولي الفقيه والحرس الثوري، وفي الوقت ذاته عملت على تصدير شكل الدولة الحديثة القادرة على التواصل مع المنظومة الدولية بوجود مؤسسة الرئاسة والحكومة، وهذا التنوع في شكل النظام شكل مرونة وحصانة في آن معاً.
وبالحديث عن المواجهة الأمريكية الإيرانية عبر العقود الأربعة من عمر الجمهورية الإسلامية، فقد مرت هذه المواجهة في عدة مراحل وتراوحت مستوى وحدة المواجهة بين أشكال ومستويات عدة، بدأت المواجهة بمرحلة الفصام التام لإيران عن المنظومة الغربية، الذي ترافق مع قيام الجمهورية، وخاضت الثورة أولى مواجهاتها بحادثة اقتحام السفارة الأمريكية واجتجاز الرهائن أمريكين لمدة زادت عن 400 يوم، فيما تمثل الرد الأمريكي آنذاك، وبشكل فوري، بفرض العقوبات على إيران وتجميد أصولها في الولايات المتحدة وحظر التجارة معها.
وتعتبر هذه المرحلة لحظة فارقة بين الطرفين ورسمت قواعد جديدة للعلاقة، وقد ساعدت القوة النفطية لإيران وموقعها المطل على منبع النفط العالمي في تجنيبها سعي الولايات المتحدة آنذاك إلى خوض مواجهة عسكرية ضدها، تمس عصب الاقتصاد العالمي، وفي تطويرها لاستراتيجيتها في التعامل مع إيران الجديدة، عملت الولايات المتحدة على تعزيز الهوة بين إيران وإقليمها والمتحالف في معظمه مع أمريكا، حيث دعمت واشنطن إدامة الصراع بين العراق وإيران، الذي استمر لثمان سنوات، أدخلت الجمهورية الإسلامية في حالة من الاستنزاف وأسست لشرخ لم يندمل بين إيران والخليج العربي.
لقد كان لذلك أثر على برنامج إيران الخارجي، حيث تتطلب ترميم بنيتها الداخلية وبناء قواعد جديدة لاقتصادها عقدا كاملا، وبقيت أمريكا رغم ذلك تعتبر إيران دولة معادية و"داعمة للإرهاب". ومع الألفية الجديدة وقدوم إدارة بوش، أعلنت الولايات المتحدة عن محور الشر التي تهدف لمواجهته، وكانت إيران ضمنه، وأخذت المواجهة بين الطرفين تتصاعد خاصة في ظل تزايد مساعي إيران في تطوير برنامجها النووي واتساع مساحة نفوذها الخارجي إثر حالة الفراغ التي أحدثتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، اللذين يقعان في المجال الحيوي لإيران.
ضاعفت الولايات المتحدة العقوبات على إيران في مراحل متعددة بهدف الضغط عليها للتخلي عن مشروعها النووي وسياستها الخارجية المناهضة لإسرائيل، وكانت قضية دعم إيران لقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية أخد اهم نقاط الخلاف مع الولايات المتحدة. ورغم سياسة إدارة أوباما التي حاولت أن تشق مساراً دبلوماسياً تفاوضياً، واستطاعت أن تحقق اختراق بين الجانبين بتوقيع الاتفاق النووي، إلا أن ذلك لم يسفر عن حل شامل يمس جوهر المواجهة بين الطرفين.
وفي ظل مرحلة "الثورات العربية"، تصاعدت حدة التناقض واتسعت مساحة الاشتباك بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، حيث حددت إيران منذ بداية الأزمة الإقليمية رؤيتها للأحداث وحددت سياساتها بناءً على ذلك، وتقوم الرؤية على أن الاختلالات ستسفر عن حالة فراغ تهدف الولايات المتحدة الأمريكية من خلالها لإعادة رسم المنطقة بما يضمن لها إحكام السيطرة عليها ويؤمن مصالحا ويحمي حلفائها، وأهمهم "إسرائيل"، وجعل الأخيرة القوة الإقليمية الأولى وإخضاع المنطقة لرؤيتها. عملت إيران على مواجهة ذلك دون تردد لأنها رأت في ذلك تهديد لمصالحها قد يتطور ليمس طبيعة وجودها، واشتبكت مع هذا المشروع في سوريا واليمن ولبنان والعراق، واستطاعت أن تحجز لنفسها حيزاً يحول دون نجاح المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة.
ومع قدوم إدارة ترمب، بدأ مسار الأزمة في المنطقة يدخل مراحله الاخيرة بعد أن استطاعت القوى العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة من إجهاض التحول في الدول العربية ومنع إنتاج مشاريع عربية تحررية من الهيمنة الأمريكية. وبقيت إيران ومحورها في مواجهة مباشرة مع المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة. وخلال السنوات الأخيرة، رسمت قواعد للاشتباك بين الطرفين اعتمدت فيها إيران على شبكة حلفائها من القوى والجماعات الموالية لها في سوريا ولبنان والعراق وعملت الولايات المتحدة على دعم إسرائيل والدول العربية المعادية لإيران للقيام بواجب مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. حيث تولت إسرائيل مواجهة الوجود الإيراني في سوريا ونفذت عشرات الغارات التي استهدف البنية التحتية العسكرية لإيران في سوريا والعراق والتي تقول إسرائيل أنها بنية تحتية تهدف لتهديد أمنها ووجودها.
وفي جبهة أخرى، أعلنت السعودية عن عملية "عاصفة الحزم" لمواجهة جماعة الحوثي في اليمن وخاضت معهم معركة طويلة فشلت السعودية من القضاء على الحوثي أو حتى الحد من قدراته العسكرية. كما عمدت الولايات المتحدة على فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران والضغط عليها والرهان على اشعال التوترات داخل إيران بالضغط على الجمهور الإيراني اقتصادياً. وقد شمل هذا الضغط ساحات النفوذ الإيراني في لبنان والعراق. حيث تراهن الولايات المتحدة على أن نؤدي التحركات الشعبية تحت وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة على زعزعة الاستقرار في حواضن المحور الإيراني.
إلا أن إيران، التي يبدو أنها قررت عدم الاستسلام للمعادلة الأمريكية، وعدم تكرار نماذج الحصار الأمريكي للعراق والسودان وغيرها، وجدت نفسها مطالبة بممارسة ضغط على التواجد الأمريكي في المنطقة، خاصة في العراق، واستخدام أوراق تمس أمن الطاقة الدولي وأمن حلفاء واشنطن كالسعودية وإسرائيل، وبالفعل، قامت إيران بعدة خطوات تصعيدية مباشرة رداً على الضغوط الأمريكية بإسقاط الطيارة الأمريكية التي اخترقت الأجواء الإيرانية ونسب لها أو لحلفائها ضرب مصافي النفط السعودية التابعة لشركة أرامكو. وقد أثرت هذه الأحداث على صورة أمريكا وحلفائها حيث تصاعد النقاش حول جدية الولايات المتحدة في حماية حلفائها. حيث دخلت المواجهة بين الطرفين لمرحلة جديدة من التصعيد بات الطرفين على مقربة من المواجهة المباشرة بدون وكلاء.
وتعد حادثة اغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني والشخصية المحورية في مشروع إيران الخارجي ونائب رئيس قوات الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس أحد أبرز الجهات الموالية لإيران يعد تطوراً جديداً في المواجهة بين الطرفين ويدخلها في مرحلة غير مسبوقة وهي مرحلة المواجهة المباشرة بين الطرفين. فاختيار شخصية بمكانة سليماني ليكون بداية لأولى الضربات الأمريكية المباشرة لإيران يعد حدثاً ذا دلالة واضحة على طبيعة المرحلة الجديدة. حيث يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية قد حسمت أمرها بضرورة مواجهة إيران مباشرة لإتمام مشروعها في المنطقة حيث لم يعد هناك من يعرقل هذا المشروع سوا إيران ومحورها، وأن الرهانات الأمريكية على حلفائها أو زعزعة الداخل الإيراني لم تعد كافية لإجبار إيران للتراجع عن مشروعها وأن الضرر الذي ألحقته إيران بصورة أمريكا في المنطقة لم يعد محتملاً.
ويمكن القول إننا بصدد المواجهة المباشرة بين الطرفين، وهي لا تعني بالضرورة الحرب الشاملة، وإن كان هذا السيناريو محتملاً، وقد يؤدي تصاعد الموقف للوصول إليه. إلا أن معالم المرحل القادمة قد تتسم باستخدام الطرفين لأدوات مباشرة بينهما بالإضافة للوكلاء الآخرين. وإذا ما تحققت هذه الفرضية فهذا يعني أن إيران اليوم تقف أمام خيار المواجهة بلا ريب. وهي مواجهة صعبة ومعقدة وتتسع مساحتها بين الطرفين لتشمل منطقة الشرق الأوسط برمتها. حيث لكلا الطرفين تواجد في مساحات مشتركة بدءاً من افغانستان مروراً بالعراق ومياه الخليج وسوريا واليمن ولبنان. وإذا ما أضفنا حلفاء أمريكا للمواجهة فأمام إيران مساحة أوسع من نقاط الاشتباك مع الولايات المتحدة تشمل قواعدها في الخليج العربي وإسرائيل.
إن طبيعة إيران ونظامها السياسي وموقعها الجغرافي وما تملكه من مخزون من النفط والغاز وما بذلته من استعداد عسكري وأمني استعدادً لهذه اللحظة بالإضافة لتمددها في المنطقة يجعل منها قوة مختلفة عن غيرها من القوى الإقليمية ويحتم على الولايات المتحدة أن تدقق أكثر في حساباتها إذا ما قررت المواجهة المباشرة مع إيران. إلا أن المؤشرات بين الطرفين تقول إننا في مرحلة جديدة في المنطقة لسان حال كل منهما فيها "أكون أو لا أكون".