شعار قسم مدونات

اليمن.. محطات الماضي إلهام الحاضر

blogs - اليمن

تدخل المصريون في اليمن لمساندة ثورة 62 سبتمبر للقضاء على المملكة المتوكلية في اليمن فأرسل عبد الناصر ما يقارب 70 ألف جندي لمؤازرة الثوار، ودحر الإمامة التي جثمت على صدور اليمنيين عقوداً من الزمن وكانت السعودية وعدداً من الدول الأخرى تقف في خندق واحد لدعم ومناصرة الإمامة بالمال والجنود والمرتزقة، لقد استمرت الحرب ضروساً لثمان سنوات رواحت بين الكر والفر، والهجوم والدفاع بين كلا الطرفين، وعملت على استنزاف القوات المصرية حتى أيقن عبد الناصر أنه لا بد من سحب قواته من اليمن التي غرق في وحلها، وخلّف ألافاً مؤلفة من الجنود وما ويزيد عليها من المنضويين تحت عباءة الإمامة.

 

وفي العام 67 سحب عبدالناصر جنوده واكتفى بالنزر القليل أو الطيران في أضيق الحدود لمؤازرة الجمهوريين، فأيقن الجمهوريون بالخذلان، واهتزت معنوياتهم، وضعفت قدراتهم نظراً لقلة العدة والعتاد الذي أثّر في تماسك دفاعات الجمهوريين ونفسياتهم، كما تعاون عبدالناصر في الإطاحة بالسلال قائد الانقلاب على الإمام البدر، وقد أحدث ذلك فارقاً ودعماً للملكيين حتى أدى إلى حشد قواهم ومناصريهم مجهزين بالعدّة والعتاد الذي كانت تتلقاه وفي محاولة لحسم الموقف تُوّج بالحصار الذي ضُرب سبعون يوماً حتى ظنّ الجميع أن يذعن الجمهوريون، ويلوحون بالاستسلام، ويرفعون بيارقاً بيضاء أمام جحافل الكهنوت، وتقديم أنفسهم قرابين لمن جعلوا اليمن سجناً سحيقاً، محروماً من أبسط الحقوق، ليس له إلا ما يراه الإمام كولي نعمة.

 

لكن سرعان ما أعاد الجمهوريون ترتيب صفوفهم، وتناسوا غوائرهم، وطبطبوا على جراحهم، وتنادوا من كل صوب، وشكلوا درعاً حصيناً، ولحمة واحدة لمواجهة الخطر الذي يحدق بالأرض والإنسان، وصار عهداً أن لا يبقون تحت عباءة الظلم، وجدران الذل، بقيادة الفريق العمري، وتم ردع الملكيين، وكسر الحصار الكهنوتي، وردم ماضيه البغيض لردح من الزمن، والاعتراف بالجمهورية ممن حاربها ووقف في خندق واحد أمامها، وربط بينهما مصيراً مشتركاً لكن يأبى الله إلا أن يزعزع عروش الظلم ويكّسّرها، ويغير الأحوال، ويصنع النصر برجال تؤمن بطريق الحرية، وتعيش للكرامة، وتثأر للإنسانية.

 

محطة 2015

انقلب الحوثيون على الشرعية وسيطرت الجماعة على المؤسسات الحكومية والمقدرات المالية، وزادت نشوتها في السيطرة على بقية المحافظات فكرّت على المدن واحدة تلو الأخرى وبصورة سريعة، بعكس الوقائع الحربية، مما دلّ على تسهيل الطرق أمامها وتذليلها من قبل قوات النظام السابق، وتسخير العدة والعتاد وتمكينهم منه حتى وصلت إلى العاصمة عدن، فكانت محطة كسر العظم، ونذير الخطر التي استشعرتها الشرعية رغم الناقوس الذي كان يُطرق ولا زالت محصورة في دماج ثم عمران ثم كارثة صنعاء، التي كُسرت فيه كل الأعظم لو كانوا يفقهون.

   undefined

 

خرج رئيس الجمهورية مستنحداً بالجار الذي تربط أواصر الأخوة، وروابط الدم، وفزعات الشهامة، فكانت لحظة فارقه ظنّها الكثير من أبناء الشعب اليمني بل والعالم المراقب تدخلت تلك الدول على بقيادة السعودية والإمارات فتحركت بضرباتها الجوية ودعمها للمقاومة وخلال فترة وجيزة تم دحر الانقلاب، وتطهير الكثير من المحافظات الجنوبية، وهنا كانت الطامة فتوقفت الجبهات فجأة، وانحسر الدعم، وتقلصت الطلعات، وتُركت المقاومة تواجه مصيرها، مع شحة عدتها وتواضعها أمام مقدرات دولة وتجهيزات جيش استلمه الحوثيون من بائعي الجمهورية، ومغلّبي الحقد السياسي على الصالح العام للبلد.

 

وبين الركام كان هناك ثعلب المكر يسيطر على الموانئ والمقومات الاقتصادية وثروات البلد وكشف عن قناع الأخوة والنجدة إلى حقيقة المحتل الخائن، تلك الدولة التي لا تتعدى مساحتها مدينة يمنية، ولا يرقى تاريخها إلى بصيرة أرض لمواطن يمني يعيش في قرية ريفية، أو عقد زواج لعجوز يعيش مع حبيبته لأكثر من تسعون عاماً، فصارت تقتل وتعتقل وتسلب وتسيطر وتحكم وتنهب دون ذرّة خجل، أو أدنى كرامة.. لقد أظهرت ذلك القبح الذي كان يختفي خلف أسواره وجه ضاحك، وسواد يتوارى خلف بسمات ساحرة.

 

اليوم تدخل الحرب عامها السادس وكأنك يا سالم ما غزيت، والحوثي يسيطر على العاصمة مما يجعل هناك تساؤلات كثيرة، واستفهامات عديدة ومتشعبة حول النوايا المبيته، والسرائر المخفية في مستقبل اليمن تحت قشة الشرعية، لقد تكشفت الكثير من الصغائن، وظهرت الكثير من الأفعال، واستبان الصديق من العدو، والجميل من القبيح، وصار الأمر لا يعدو أن يزيد على ما هو عليه إلا تعقيداً، ومزيداً من سفك الدماء، وتمزيق تراب الوطن وتقزيمه، والاستيلاء على موانئه، والتحكم في قراراته، وتدمير جيشه.. فتعز روايات مفتوحة، ومأرب كتاب مبعثر، والحديدة والضالع وشبوه صفحات متعددة أظهرت النوايا القاتلة، والشعارات الزائفة، بالوقائع المعاكسة.

 

تشابهت قلوبهم

تدخل عبد الناصر في محطته الأولى عندما امتلك نشوة باسم القومية العربية الفاشلة لتزّعم الدول العربية والتنافس على قيادتها فقد أرسل ألاف الجنود، خسر فيها الطرفان الكثير من الجنود، وأُنهك الجانبين، واستنزف الجيش المصري أيُما استنزاف لكنه لم يحصل بغيته، ولم يُشبع نهمته فحاول أن يحفظ ماء الوجه من خلال مؤتمر اركويت وغيره تم الاتفاق على انسحاب ما تبقى من جيشه في اليمن ولم يبق إلا القليل حتى عام 67 وقد أدى انسحابه إلى انهيار الجمهوريون، والاختلاف فيما بينهم وتوّج ذلك بالانقلاب على السلال وبدعم من عبدالناصر، كما عمل على سجن الكثير من القادة العسكريين والسياسيين، مما يتضح جلياً أنه أراد التبعية لا المناصرة، فقال له الشعب هذا فراق بيني وبينك وما مؤتمر خمر إلا شاهد على ذلك.

   undefined

  

أحدث الانسحاب والاختلاف ثغرة لإعادة ترتيب صفوف الملكيين وهجومهم على العاصمة ومحاصرتها، فكان ذلك مصدراً لتوحيد الصف الجمهوري، وملهماً لتكوين جبهة قوية، ودرع وحدوي لكافة الأطياف والتيارات لكسر الحصار ودحر الظلاميين، بعيداً عن وصاية الخارج، واملاءاته، والاعتراف فوراً بالجمهورية ممن تخندقوا ضدها، وما نلحظ اليوم لا يختلف كثيراً عن الأمس، وأحداث الماضي؛ فالتدخل بات مفضوح النوايا، منعدم المصداقية، منعدم النخوة والضمير، فقد وقع الشعب بين نيران الأخ وأطماعه، وغدر الصديق واحتلاله، ومدعي النجدة والفزعة، وآن للشعب اليمني أن يكتسي بعباءة المحطة القديمة ويستلهم من عبقها دروساً ليصنع مستقبلة، فلن يزيد البقاء غير العناء، والأمد غير الذل، والوطن غير التمزق والدماء..

 

دروسا ملهمة

وبمقارنة المحطتان ووقائعهما تجد أن الجمهورية تحتاج لأعمدة الجمهورية القديمة ومنها:

أولا: أن تتداعى القبائل والأحزاب في الشمال والجنوب في الشرق والغرب من الكبير والصغير، العامّي والأكاديمي، وكل من يحمل نبض الجمهورية إلى ما دعى إليه الزبيري وأسس دعائمه في مؤتمر خمر مؤتمراً بحجم اليمن، وتاريخي بأصالته، وجغرافي بحجم الموقع، وثابت بحجم سهولها وشموخ جبالها لتقول للظالم يكفي، والعابث توقف، والمحتل أرحل بدءاً بنفث القيادة العاجزة وتجاوزها وتكوين صفاً وحدوياً واحداً، وميثاق شرف يتعاهد عليه الجميع من أجل التحرير، وإنقاذ شعب، وحفظ الكرامة، أليس لهذا الوطن رجال كالزبيري، وحرّاس يذودون عن حياضه ومثل قائل -لن يحك جلدك مثل ظُفرك- فلا تحرير بغير وحدة، ولا نصر بالاعتماد على إمكانيات الغير، وتجريب المجرّب خيانة.

 

ثانيا: الدعوة لإخراج كل القوى من الأرض اليمنية التي دنست وجه اليمن الشريف، وترابها الطاهر، وتاريخها العبق من كل ربوعه، إلا من أثبت صدقه وتخندق في صف واحد من أجل التحرير فقط، وسخر الإمكانيات تحت تصرّف الجيش الوطني ودعمه دعماً حقيقياً فالوطن ملئ بالشرفاء، وغنيٌ بالأبطال والعظماء، فلم يزد التواجد إلا دماء، وجروحاً غائرة، ونكاية وإهانة، والمحامي أصبح حرامي فليرحل الحامي ليموت كل حرامي.

 

ثالثا: أن تبدأ معركة التحرير بدءاً بالموانئ الهامة التي ستغير من قدر المعركة، وتغير من نمط الاستراتيجيات المتبعة فميناء الحديدة والمخا يعتبران شرايين الإمداد الحيوية لكل من يسيطر عليهما، ويتحكم بأبوابها، ويهيمن على نشاطاتها، فهو منفذ الدعم للانقلاب الذي يجب قطعه، وشريان الحياة للشعب الذي يجب التحكم فيه، والتاريخ يعيد نفسه.

 

رابعا: إعادة تصدير النفط والغاز وغيرها من الثروات والمنتجات اليمنية من خلال المنافذ التي يتم التحكم بها، والسيطرة عليها كي لا يضل الجمهوريون مُبتزون من الخارج، ويأخذ الشعب حقه، ليشعر ة بأمان الدولة التي يسند إليها ظهره، وحكومة تضحي من أجله، ليكونوا سنداً لها وعوناً في تدوير عجلة التحرير، وصنع التاريخ.

 

إذاً فمعركة التحرير تبدأ بتوحيد الصف الجمهوري بكل أطيافه، واحتواء الجميع من أجل الوطن ثم الاستغناء عن كل عابث وعن كل وجود يقضي على تاريخ عريق، ويهين شعب جذوره ضاربة في العمق منذ آلاف السنين، والبدء بالمعارك الاستراتيجية التي تغير قدر المعركة ومستقبلها، وإعادة التصدير الذي تعتمد عليه الدولة، وإعطاء الشعب حقه، وإشعاره أن هناك دولة حقيقية يأوي إليها ويسع جاهداً لمساندتها، وتعزيز وجودها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.