بعد أشهر معدودة من نجاح دعوته للتظاهر ضد رئيس مصر "عبد الفتاح السيسي" في 20 سبتمبر 2019، دعى الفنان ورجل الأعمال "محمد علي" المصريين للتظاهر مرة أخرى في الذكرى التاسعة لثورة يناير2011. إلا أن دعوته الثانية لم تلق استجابة كسابقتها، ومرت ذكرى الثورة دون أي حراك معارض يذكر. وعلى أثر ذلك أعلن محمد علي اعتزاله العمل السياسي. الأمر الذي أفرز ردود أفعال متباينة بين الشماتة والتشكيك والإحباط، مقابل الشكر والتمسك بالأمل في استمرار الثورة ونجاحها لاحقا. وبإعلان محمد على اعتزاله العمل السياسي كمعارض لنظام عبد الفتاح السيسي، تكون تجربته أو بلغته هو "لعبته" مع السيسي قد انتهت، ومن ثم يتوجب تقييمها بموضوعية توثيقا للتاريخ.
لقد حملت تجربة محمد علي عددا من الإيجابيات تمثلت أهمها في فضح الفساد المالي لقيادات المؤسسة العسكرية في ضوء التفاصيل التي كشفها. وبالمثل إثبات كذب النظام فيما يتعلق بمحدودية الموارد الاقتصادية ومطالبة الشعب بتحمل أعباء معيشية جسيمة، في الوقت الذي يهدر فيه المليارات على أغراض شخصية لصالح السيسي وحاشيته. وهو الأمر الذي لم يكذبه السيسي، بل أكده في تحد سافر للجماهير التي تعاني تبعات سياساته غير الرشيدة.
وكان من أبرز إيجابيات تجربة محمد علي أيضا الحشد لتظاهرات سبتمبر 2019، وذلك بعد أن قدم نفسه كواحد من الجماهير، وبالشكل الذي ظهر عليه عفويا وتلقائيا. تلك التظاهرات التي أزعجت النظام كثيرا وأثبتت أنه غير مستقر رغم السنوات التي قضاها السيسي في السلطة عقب انقلابه العسكري على تجربة ديموقراطية بأكملها عام 2013، وعلى الرغم من تأكيده الدائم على استقرار نظامه وشرعيته الجماهيرية.
كانت رسائل محمد على واضحة ومباشرة منذ البداية، حيث أكد أنه لم يكن مسيسا بأي شكل، وأن كل مطالبه تلخصت في الحصول على مستحقاته المالية المتأخرة لدى الجيش |
كما أن اتفاق القوى المعارضة للسيسي بتوجهاتها المختلفة على "وثيقة التوافق المصري" التي قدمها محمد على بدوره للمصريين، يعد من إيجابيات تجربته. ومع أن تلك الوثيقة لم تكن جديدة في مضمونها، إلا أن الاتفاق شبه الجمعي عليها كأساس يمكن البناء عليه كان هو الأمر الجيد، وعلى الرغم من تلك الإيجابيات، فقد اعترى تجربة محمد على عدد من السلبيات أو الملاحظات ومن أبرزها:
حيث لاقت المقاطع المصورة التي أصدرها محمد علي منذ بدايتها في الرابع من سبتمبر 2019 انتشارا واسعا على الرغم من أنه لم يكن شخصية عامة ولا فنانا شهيرا في ذلك الوقت، وذلك مع التسليم بأهمية ما أفصح عنه محمد علي من معلومات فضحت فساد النظام. الأمر الذي يطرح سؤالا حول كيفية وصوله إلى إعلام المعارضة، خاصة وأن الكثير من المعارضين ونشطاء وسائل التواصل الاجتماعي لا يحظون بنفس الفرصة للانتشار. لقد ساهمت المعارضة في صناعة "الزعيم" محمد علي بشكل مبالغ فيه، رغم أنه لم يكن مسيسا، وكأن هناك من كان يفسح له المجال عمدا.
لقد كانت رسائل محمد علي واضحة ومباشرة منذ البداية، حيث أكد أنه لم يكن مسيسا بأي شكل، وأن كل مطالبه تلخصت في الحصول على مستحقاته المالية المتأخرة لدى الجيش، وأن هدفه كان الضغط على النظام لتلبية مطالبه. ولكنه بعد أسبوعين فقط تحول فجأة إلى معارض سيأسى عقب اعتراف السيسي بوقائع الفساد التي تحدث عنها محمد علي، بل ودعى المصريين للتظاهر في العشرين من سبتمبر 2019 للإطاحة بالسيسي. فكيف أمكن قبول ذلك التحول المفاجئ في دور محمد علي، من مقاول كون ثروة طائلة من عمله مع الجيش ويطالب بمتأخرات مالية، إلى معارض لرأس النظام والقائد الأعلى للجيش ويسعى إلى الإطاحة به؟ خاصة أنه لم يقدم مبررا موضوعيا واحدا لها التحول.
كان جليا منذ البداية استخدام المعارضة لمحمد علي كورقة ضغط ضد السيسي ونظامه، ويمكن تفهم ذلك في إطار العملية السياسية لا سيما ضد نظام انقلابي. ولكن ما يحتاج إلى تفسير هو تصدر محمد علي لمشهد المعارضة حتى ظهر كزعيم لها. وليس من قبيل المبالغة القول إن المعارضة قد بدت كمن رضى بمحمد علي زعيما وهو الرجل الذي كان قد أعلن أكثر من مرة أنه ليس لديه أي خلفية أو خبرة أو اهتمام بالعمل السياسي. فضلا عن تكوينه ثروة كبيرة من الفساد المالي للمؤسسة العسكرية. كما أن "وثيقة التوافق المصري" لم تقدم جديدا إلا محمد علي في ثوب الزعيم، لذلك فإن احتمالات الإحباط واليأس تصبح طبيعية ومنطقية حال انسحاب الزعيم.
لا شك أن محمد علي قد تفوه بكلمات تحسب عليه وعلى المعارضة ككل، ومن أمثلة ذلك وصفه لمعارضته للسيسي بكونها "لعبة"، وحديثه أنه كان نائما وقت التظاهرات التي دعى لها في سبتمبر 2019. وكذلك مطالبته لوزير الدفاع بالانقلاب على السيسي وقتها، على الرغم من أن مصر لا تزال تعاني تبعات انقلاب عام 2013، فضلا عن أن الانقلابات مرفوضة من الأساس. كما أن تفسير محمد علي لعدم الاستجابة لدعوته للتظاهر في ذكرى الثورة بكونه إما رضا من المصريين بالسيسي أو بالخوف منه مع تقديمه للرضا على الخوف، يتجاهل أسبابا رئيسية منها القوة الغاشمة المميزة لنظام السيسي، والقبضة الأمنية المشددة على كل ربوع مصر قبيل ذكرى الثورة، فضلا عن اعتقال الآلاف من متظاهري سبتمبر 2019 تلبية لدعوة محمد علي نفسه رغم تأكيده أن هناك ضباطا من الجيش والشرطة سوف يدعمون تلك التظاهرات.
جربة محمد على قد حملت مزايا وعيوبا ودروسا يجب الاستفادة منها. وسواء اعتزل محمد على العمل السياسي أم لا، فإن الثورة مستمرة ما دامت أسبابها وموجباتها |
ظهرت ضبابية رؤية محمد على أكثر من مرة، ومن أمثلة ذلك حديثه الدائم أنه يريد مصر كأوروبا دون تحديد أوجه التماثل التي يريدها لا سيما في ضوء الاختلافات الثقافية. وكذلك تكراره للحديث عن تواصله مع القوى الثورية المعارضة بالخارج دون توضيح ماهيتها. وبالمثل حين دعى الناس للتظاهر في ذكرى الثورة دون استراتيجية واضحة لإدارة التظاهر. كما أن مطالبته المتظاهرين المحتملين بقطع الطرق الرئيسية قد أعطى مبررا لتشويه المعارضة.
وفي عشية الخامس والعشرين من يناير 2020، وبدلا عن مناقشة استراتيجية التظاهر المقترحة، أهدر الإعلامي المعارض الدكتور حمزة زوبع حلقة كاملة من برنامجه في مناقشة رؤية محمد علي لمصر ما بعد السيسي، الأمر الذي أثار غضب واستهجان الكثيرين. حيث كان الأجدر تخصيص ذلك الوقت الحرج لمناقشة خطة التظاهر وآلية الإطاحة بالسيسي أولا.
خلاصة القول، أن تجربة محمد على قد حملت مزايا وعيوبا ودروسا يجب الاستفادة منها. وسواء اعتزل محمد على العمل السياسي أم لا، فإن الثورة مستمرة ما دامت أسبابها وموجباتها. وكما كانت الثورة قبل محمد علي، فستظل قائمة بدونه وسيستمر النضال من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وستبقى الثورة كابوسا يؤرق نظام الانقلاب العسكري في مصر حتى تطيح به وتحقق أهدافها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.