كانت -ولا تزال- الدّماء مصاحبة لكلّ الجيوش الغازية عبر التاريخ، باستثناء الفتوحات الإسلامية التي شهد معارضوها قبل مؤيديها بأن الخير والأمان كانا مصاحبين لها في كلّ مِصرٍ تدخله؛ ومن ذلك الفتح العثماني للبلاد العربية الذي شَغَل المؤرّخين والنُّخَبَ والكتّاب عصوراً مديدة، توثيقاً وروايةً ودراسةً. فانصرفت طائفة منهم لتتبع العثرات والتفتيش عن الأخطاء -التي لا بدّ منها في كلّ دولة لها سياستها- وتضخيمها حتى لتظهر للقارئ أنها الأصل في مسيرة الدولة بأكملها. بل إن الحملة توسّعت واشتدّت معارضتها لفترة الحكم العثماني من مجرّد تتبع العثرات والأخطاء وصولاً لإطلاق صفة الاحتلال عليها، بتحريف كثيرٍ من المناهج التعليمية في بلداننا العربية، بدوافع سياسيّة وتاريخية وقوميّة، حتى صارت -ويا للعجب- تساوي بين الفتح العثماني والاحتلالات الأوروبية المتعاقبة للدول العربية.
بل تعدّى الأمر تحريف المناهج التعليمية حتى وصل بالحكومة المصريّة عام 2018م إلى تغيير اسم شارع في حيّ الزيتون بالقاهرة يحمل اسم "سليم الأول" بعد وصف محمد صبري الدالي (أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان) السّلطان العثماني البارز بـ (أول مستعمر للبلاد) بقوله: (لا يصح إطلاق اسم أول مستعمر للبلاد أفقدها استقلالها وحوّلها لمجرّد ولاية من ولايات الدولة العثمانية على شارع بمصر)، ولعلّه نسي أن أسماء عدد من الغزاة والمستعمرين لا زالت مناطق عدة على امتداد خريطة مصر تحملها حتّى يومنا هذا، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر (شامبليون الفرنسي، سيمون بوليفار الكولومبي، البارون البلجيكي، وسانت فاتيما) وغيرهم الكثير ممّن لاتزال أحياء ومناطق عدّة في القاهرة ومدن مصرية أخرى تحمل أسماءهم، فهل يحذف اسم فاتحٍ مسلم استجاب لدعوات علماء ووجهاء مصر لتخليصهم من حالة الفوضى والظلم والفساد الواقع عليهم زمن المماليك كما هو مثبتٌ تاريخياً وتترك أسماء الغزاة الأجانب؟!
التاريخ العثماني منطقة وعرة؛ لابد للخائض فيها، والمتجوّل في رحابها أن يكون على استعدادٍ تام، وأن يطرح الأفكار والأحكام المسبقة التي كوّنتها حملات التشويه الطويلة جانباً قبل الكتابة عنها أو ذكر تفاصيلها |
ولكن، وبرغم حملات التشويه المستمرة، المجرّدة من الإنصاف في أكثر حالاتها، حملت ثلّة من المؤرخين والنخب المثقفة على امتداد العالم همّ تبيين الحقائق إن بكتاباتها المنوّعة ونتاجها الأدبي والثقافي، أو بإصداراتها الإعلامية، مرئية كانت أو مسموعة. فقد ذكرت المؤرخة المصريّة (نيللي حنا) نافية الأقوال التي تزعم تدهور الحركة التجاريّة في العالم العربي عموماً ومصر خصوصاً في زمن الحكم العثماني في مقابلة لها نشرت على مدوّنة (عشري علام): (كانت هناك علاقة تجارية مهمة وحركة تبادل تجاري بين الموانئ المصرية والعثمانية، وكان يوجد تجّار "أتراك" في مدينة "رشيد" بمحافظة البحيرة بدلتا النيل، والتي ساعدت مصر اقتصادياً بشكلٍ كبير). كما ذكر المؤرخ المصريّ (الجبرتي) في كتابه (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) متحدثاً عن الدّولة العثمانية وذاكراً فضلها على من سواها ممن حكموا مصر قبلها:
(وكانوا في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين، وأشدّ من ذب عن الدين، وأعظم من جاهد في المشركين؛ فلذلك اتسعت ممالكهم بما فتحه الله على أيديهم وأيدي نوابهم، وملكوا أحسن المعمور من الأرض، ودانت لهم الممالك في الطول والعرض، هذا مع عدم إغفالهم الأمور، وحفظ النواحي والثغور، وإقامة الشعائر الإسلامية، والسنن المحمدية، وتعظيم العلماء وأهل الدين، وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع، فتحصنت دولتهم، وطالت مدتهم، وهابتهم الملوك، وانقاد لهم الممالك والمملوك).
لا أظنّ أني سأكون مبالغاً إن قلت أنّ "الحقبة العثمانية" من التاريخ العربي والإسلامي نالها الحظ الأكبر من الحملات الدؤوبة والحركات المستمرة لتشويهها وتحريف وقائعها عمّا كانت عليه. ومن المؤسف أن كثيراً من هذه الحملات -إن لم تكن جميعها- صدرت عن بعض الحكومات العربية، أو ثلّة من الكتّاب وأصحاب الرأي، الذين تخلّوا عن إنصافهم أثناء تصفّح التاريخ فدسّوا سمومهم في المناهج التي تدرّس لأجيالنا الصّاعدة. ولو أردنا ذكر افتراءاتهم لطال بنا الأمر واحتجنا لسلسلة تاريخية كاملة؛ ولذلك سنقف على أكثر ما يثيره هؤلاء عبر منابرهم الكثيرة وهو تدني مكانة العرب في فترة الحكم العثماني لبلادهم وتحوّل بلدانهم لبؤرٍ من الجهل والفقر بعد أن سلبت خيراتها.
وعلى الجهة الأخرى، فهذا جزءٌ ممّا كتبه المؤرخ البريطاني (فيليب مانسل) عن المناطق العربية في ظل الحكم العثماني والذي يفنّد الرواية السّابقة، حيث قال: (عبد الحميد الثاني عمد إلى توفير المال وتركيز الاهتمام على الأقاليم العربية بحيث فضّلها على العديد من المناطق التركية) انتهى كلامه. وربما كان خير شاهدٍ ودليل على كلام مانسل؛ المشاريع الحيوية الكثيرة التي قام السّلطان عبد الحميد بها أو بدأ بها قبل المناطق التركية، كسكة بغداد، وسكة الحجاز، وتطويرِ كلٍ من بيروت وحيفا ومعان وتبوك ودرعا، وبناء بئر السبع لمواجهة الاحتلال البريطاني لمصر، وأكثر من ذلك مما ساهمت الحكومات العربية "المستقلة" بإيقافها أو تعطيلها بالتنسيق مع المستعمر الأجنبي.
إنّ التاريخ العثماني منطقة وعرة؛ لابد للخائض فيها، والمتجوّل في رحابها أن يكون على استعدادٍ تام، وأن يطرح الأفكار والأحكام المسبقة التي كوّنتها حملات التشويه الطويلة جانباً قبل الكتابة عنها أو ذكر تفاصيلها. ولعلّي أذكرُ – وقد وصلت لنهاية الحديث – أن هذه الكلمات ليست مقالة تاريخية توثيقية، ولا ينبغي لها أن تكون، بل محاولةٌ للذبّ والدفاع عن الدولة العثمانية – في ذكرى تحريرها لمصر على يد السّلطان سليم الأول قبل خمسة قرونٍ خَلَت.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.