شعار قسم مدونات

آمن عقلي ولم يؤمن قلبي!

BLOGS تفكير

ماذا لو كانت كل الأدلة العقلية تقودك إلى الإيمان بالله؟ وتجد الإسلام متوافقا مع ما تمليه عليك قوانين العقل، لكنك مع ذلك لا تجد لذة الشعور بهذا الإيمان، ولا تحس بقلبك يتحرك لهذا الإيمان، ثم لا تجد هذا الإيمان العقلي ينعكس على سلوكك؟ ألست أمام معضلة: قد نسميها انفصال القلب عن العقل!

   

البعض يعتبر الإيمان تجربة روحية أكثر منها تجربة عقلية، فأحكام العقل من طبيعتها جافة، أو إن شئنا أن نقول إنها عملية ميكانيكية، أو شبه معادلات رياضية، قد تقودك إلى الإيمان، أو قد تقودك إلى الإلحاد، أما الإيمان الحقيقي فهو تجربة روحية بالدرجة الأولى، هو تفاعل وجداني مع ظواهر الكون، وليس مجرد إعمال للعقل في مراتب الوجود واستخدام تلك القواعد المنطقية مثل استحالة التسلسل والدور، وأن لكل سبب مسبب.

  

لا أجادل هنا في كون هذه العمليات العقلية، قد تفيد في بعض الأحيان، لكن ماذا بعد؟ أي ماذا بعد إيمان العقل؟ هل نقول إنه اكتمل الإيمان أم نقول بأنه آمن العقل؟ وهو مرتبة أولية في الإيمان فقط، مرتبة تنقلك من الإيمان التقليدي إلى الإيمان المؤسس على أدلة عقلية، ومرتبة تمنعك من الإيغال في الخرافات، لكن هل يكفي؟ أحيانا أتساءل ما قيمة المعتقد الذي لا يغير من سلوك الإنسان شيئا؟  ما قيمة المعتقد الذي لا يرتقي بالروح ويجعل صاحبه يخرج من أسر المادية الذي يفرضه سياج الجسد على الإنسان؟

   

ندما يبدأ الإنسان في البحث عن قلبه يشعر بتفاهة هذه المقولات التي تروج بين الناس، لكن لابد هنا من الإقرار أن للعقل سلطانا، وله صولة

إن أكثر الأديان روحية لو تعامل معها معتنقها تعاملا عقليا جافا لن تغير من واقعه شيئا، لن تمنحه ذلك الأمان الداخلي، والشعور بالسلام، والتناغم مع الكون، كأني أنظر إلى العقيدة الجافة على أنها نشاز في الكون، فللكون روح كما له مادة، أما العقل فلا يدرك من الكون إلا المادة، لأن العقل بطبيعته مادي لا يستطيع أن يتجاوز عالم المادة، أما الروح التي تسري في الكون فإنها تحتاج إلى آلة أخرى ليتم اكتشافها والتناغم معها، تلك الآلة لن تكون هي العقل المجرد بكل تأكيد، فما تراها تكون؟

  

إيمان العقل معادلات وأقيسة منطقية ومجادلات كلامية وفنقلة (فإن قلتم قلنا..) وطواف في كتب العقائد…أما إيمان القلب والروح فهو نفحة من روح الله تلامس شغاف القلب فيسكن، وتداعب الروح الظامئة فترتوي ..إنها نفحات من الرحمة الإلهية التي يجود بها الكريم على عبده فتزهر روحه، ويحس بتناغم سيمفونية الوجود؛ التي ليس الإنسان فيها إلا نغمة قد تكون نشازا _ أو تكون إن اختارت أن تتناغم مع سيمفونية الوجود في قافلة "سبح لله ما في السموات وما في والأرض"_ تكون أجمل حلقة بين العالم العلوي، والعالم السفلي، أوليس الإنسان وحده هو المهيأ وهو الوحيد الذي اختار حمل الأمانة، "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا".

  

لا أجد في كل الجدالات الكلامية ما يروي ظمأ القلب والروح، لا أجد في كل النقاشات الفلسفية مع الإلحاد ما يشعرني بعظمة الإيمان، إنما قد أجد كل ذلك وأكثر في لحظة صمت على قمة جبل، بين الصخور والشجر، أو تحت ظل شجرة أمام منبع ماء، أو في سكون الليل وظلمته لما يتناها إلى مسامعي نباح كلب يقطع صمت الليل، أو مع آية من القرآن، تفيض بالأنوار الربانية… عندئذ ينشرح الصدر وترتوي الروح فأقول هذا جزء صغير من الإيمان وهذه نفحة صغيرة من رحمة الله على قلبي. عندما يبدأ الإنسان في البحث عن قلبه يشعر بتفاهة هذه المقولات التي تروج بين الناس، لكن لابد هنا من الإقرار أن للعقل سلطانا، وله صولة، وله أيضا حاجات وطلبات وإلحاح في السؤال، فلابد لكل إنسان في بدايته أن يبحث عن إرواء عطش عقله، لأنه من غير هذا الإرواء لن يصفو له القلب وسوف يظل باحثا عن الماء.

 

وهكذا ظل أصحاب الأرواح المشتعلة يشتكون من تعقيد العقيدة الإسلامية التي لا تؤديى إلا إلى إيمان العقل، فبدءا بالغزالي الذي انتهى من تجواله في كتب الكلام والفلسفة، إلى خوض تجربة صوفية عملية، أدرك منها في النهاية أن الإيمان تجربة روحية، إلى رجال الغرب الذين اسلموا بعد طول تطواف، ثم ما لبثوا أن اشتكوا من تعقيد العقيدة الإسلامية التي شرحتها كتب العقائد وجفافها، فإن المطلع على أعمال محمد أسد ثم جيفري لانغ، وغيرهم من اللذين أسلموا في الغرب؛ يجد نبرة واحدة تبحث عن روح الإسلام لا عن قشوره، أي تبحث عن إيمان القلب لا عن شطحات العقل.

 

إن إيمان القلب لا يكون إلا بتجربة عملية يسلك فيها الباحث عن الطمأنينة سبيل التدبر والتفكر، ويغرق في صمت وجودي مبتعدا عن قشور الكلام، باحثا عن روح الكون التي تداعب روح الإنسان، وتتناغم معه فيحدث الانسجام ويبدأ إيمان القلب ثم تبدأ الفيوضات الربانية على القلب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.