اليمن السعيد.. كلمة يتداولها الشقيق والصديق عندما يغادر اليمني موطنه باحثاً عن ملجأ يأويه، أو جامعة تؤهله، أو مرتعاً لجلب الرزق، تناوره تلك الكلمة الجميلة، وتغازله العبارة العذبة، نسمعها من أفواه الكثير فتضفي على المستمع حزناً وحسرتاً، كما تضفي على المستمع شعوراً باليأس أحياناً، والإحباط تارة، نتيجة لسلسلة الطغاة الذين دنسوا وجه اليمن الجميل، وأردأوه في وحل التاريخ، وجعلوه رهينة للخارج تتحكم بمصير الملايين من أبناء اليمن وتصنع قراره من خلال قادة فاسدين، وساسة مجرمين يتقنون فنّ القتل ومص الدماء، ونهب الأموال والأراضي، وبناء إمبراطوريات تجارية وعقارية من حقوق وممتلكات المواطن البسيط، أو صُنع ساسة منبطحين ذوي ارادات ضعيفة، وقرارات مرتهنة، وعشوائية في التعيينات والقرارات التي تأسس للكوارث، وتقزّم المجتمع، وتغذي الصراعات، وتفتعل معارك جانبية، وحروب مستمرة.
اليمن السعيد الكلمة التي ماتت وتحولت إلى التعاسة والبؤس، إلى الجوع والفقر إلى الخوف والدمار، إلى الذل والقهر، إلى التمزق والعار، إلى الموت في الجبل والصحراء، تحولت السعيدة لسجن كبير للمواطن، فإما الحرب موتاً، أو السجن أو الجوع. لقد تلطخت الجدران بالحمرة، والشوارع بالأشلاء، وتلبدت السحب بالسواد، لقد تقنّعت السعيدة الأسقام والأوجاع، وكثرت الأوبئة والحرائق، وطفحت الجبهات بالجثث، والسجون بالتعذيب، والشوارع بالمجاعة.
نشر ACLED مشروع بيانات مواقع النزاع المسلح وأحداثها عن أعداد الضحايا منذ العام 2015 أكثر من 100 ألف شخص نتيجة للحرب في اليمن، منهم 67 في المائة من المدنيين استهداف طيران التحالف السعودي الإماراتي من جهة، وكذلك والحوثيون من جهة أخرى للأحياء والمدنيين بعشوائية، كما قُتل أكثر من 12000 شخص في العام 2019 مقابل أكثر من 30000 خلال العام 2018.
ففي الوقت الذي تسعى دول العالم للسلام، وترفيه مواطنيها، وغرس العلم بدلاً من الألغام، وبناء الاقتصاد بدلاً من القبور فإن اليمن تعيش حالة من هستيريا الحروب، وتعطش للدماء، والتفنن في صناعة القتل والدمار، وكأن اليمن مرتعاً للحروب، ومصنع للذخيرة، ومحلاً للتجارب الدولية والمحلية.
حسب إحصائيات منذ العام 2009 حتى نهاية 2019 أفادت بقتل أكثر من 1300 شخص ما بين مدني وعسكري، والآلاف من الجرحى تم استهدافهم بطرق إرهابية مختلفة من قبل جماعات متطرفة كالقاعدة وداعش والحوثيين، وأنظمة خارجية كالإمارات وغيرها.
شهدت اليمن بين الأعوام 2015 حتى نهاية 2019 الكثير من عمليات الاغتيال التي استهدفت الكثير من الشخصيات السياسية والعسكرية والحزبية، والشخصيات الاجتماعية والدعاة، فقد وثّقت تقارير أممية عن أكثر من 100 عملية اغتيال، وأظهرت الجزيرة تحقيقاً بعنوان: (أحزمة الموت) كشفت تفاصيل ملفي الاغتيالات والسجون السرية في عدن عبر محاضر تحقيق وشهادات حصرية، وذلك باستخدام مرتزقة، وعملاء كانوا ضمن تشكيلات إرهابية تم استخدامهم ودعمهم من قبل الإمارات.
انتشرت ظاهرة الاختطافات والاخفاءات القسرية في اليمن خصوصاً منذ اندلاع الحرب عام 2015، والتي خلفت الآلاف من المواطنين خلف القضبان أو تم تصفيتهم بصور مرعبة، كما طفت على السطح ظاهرة معيبة، وفواجع مرعبة، وأفعال شوارعية، واحتجازات مخلّة بالدين والعرف، والعادات والتقاليد، ويكاد المطلع أن يوقن أنها منظمة، وتدار بحرفية من قبل بايعي الأعراض، وشبكات دعارة، ومتاجرين بالعفة.
وسجلت إحصائية اختطاف ما يفوق عن 35 طالبة في اليمن خلال العام 2019 من أماكن سيطرة الحوثيين، وهذه الظاهرة دخيلة على المجتمع اليمني، ولكن الأرقام مهولة، والظاهرة مؤلمة بكل المعاني، وما تحمل من دلائل وهذ يعود إلى الانفلات الأمني، والوضع الاجتماعي المؤثر على الأفراد، والحالات النفسية، وأيادي الفساد والمجرمين الذين يلعبون بالأعراض، وابتزاز الأسر، بالإضافة إلى الانفلات الأخلاقي، وغياب الفضيلة، وتقزم دور الأسرة في التربية والتوجيه، والاستخدام السيئ لوسائل التواصل بطريقة سيئة، والخروج عن العادات والتقاليد السامية، وطغيان دور الموضة الخارجة عن الأدب والقيم، وضعف التدين والالتزام لدى الكثير من الفتيات حتى أخلّت بلابسها ومظهرها حتى صارت محل فتنة، ولوحة اعلانية للمنحرفين وعديمي الضمير، بالإضافة إلى الفراغ الذي أحدثته الحرب، وازدياد نسبة العنوسة والعزوبيك، والتكاليف الاجتماعية، وانتشار المنظمات الدولية والحقوقية التي تسعى لإخراج المرأة وتدمير أنوثتها بدعاوى الحرية، والقيود المجتمعية الداعية لخدش العفة.
حذرت الأمم المتحدة أن ما يقارب من 14 مليون يمني باتوا على حافة المجاعة، وتسعى الأمم المتحدة إلى إحياء المحادثات -حسب زعمها- لإنهاء حرب استمرت أكثر من خمس سنوات، وتسببت في أسوأ أزمة إنسانية في العالم، وقد سجلت منظمة الصحة العالمية أن 40٪ من أطفال اليمن يعانون من سوء التغذية، فتجد الطفل الذي يلبغ من العمر السنة أو أقل بقليل لا يجاوز وزنه 6 كيلو جرام.
اضطرت الكثير من الأسر إلى تقليص عدد الوجبات إلى وجبة واحدة وغالباً ما تكون عبارة عن خبز وشاي، ورغم هذه التضحية لكنه لا يشفع لها من مواجهة شبح الموت المتربص بها وبأولادها وهكذا حال الكثير من الأسر، وقد سجلت أيضاً حالات أسر فارقت الحياة في منازلها، وحالات اختارت طرق وأساليب لملاقاة الموت كالانتحار كخيار لإنهاء الحياة بدلاً من العيش في واقع يُأكل حقه، وتُهان كرامته.
انتشرت الأمراض التي لم تكن معهودة أو يُخيل وجودها في اليمن كإنفلونزا الخنازير (H1N1) التي حصدت أكثر من 350 شخصاً حتى الخامس عشر من شهر ديسمبر 2019 منهم 198 في أمانة العاصمة، كما تم تسجيل أكثر من 1038 حالة إصابة في صنعاء وبقية المحافظات تحت سيطرة الحوثيين، كما انتشر وباء الكوليرا في عدد من محافظات الجمهورية ومنها العاصمة صنعاء ذو الحظ الأوفر الذي أفقد الكثير من المواطنين حياتهم، والإصابة بعدواها، فقد رصدت وزارة الصحة 391 حالة وفاة من أصل 1190 حالة إصابة، في حين بلغت الوفيات منذ أول موجة للكوليرا في العام 2017 نحو 3200 وفاة وأكثر من مليون ونصف حالة إصابة واشتباه.
وأفاد بيان صادر عن "منظمة الإغاثة الإسلامية"، أنه تم الإبلاغ عن أكثر من 120 ألف حالة اشتباه بالمرض، وجرى التأكد من 1640 إصابة منها، كاشفاً أنّ كثيراً من الحالات وقعت في صفوف الأطفال، دون سن الخامسة، والذين يعانون سوء التغذية بما يجعلهم أقل قدرة على مقاومة المرض، ولقمة سائغة له، ومن أسباب ذلك البنية الصحية والإمكانيات الضعيفة، والتغذية السيئة لدى الكثير من الأسر وخصوصاً بين النازحين، وضعف شبكات الصرف الصحي، وانتشار القمامات في الأحياء والمناطق السكنية المأهولة، وطفح المجاري، والماء الملوث، والدور إلا مسؤول للسلطات وأنّى لهم ذلك وقد أصبح المواطن عبارة عن وقود للحرب، ومصدر لرفد الجبهات للأسف، ومخزن للذخائر والبارود.
لقد أصبحت اليمن موطناً لاستجلاب السموم، والتي خلّفت آلاف الضحايا ما بين ميت ومريض، ومع الحرب تغيب دور الرقابة الحكومية على كافة منافذ البلاد وتنامي ظاهرة التهريب، فسهل دخول آلاف الأطنان من السموم والمبيدات الحشرية الممنوعة والمحرمة دولياً. وتستخدم بشكل مفرط لرش شجرة القات التي يتعاطاها الكثير من أبناء اليمن بشكل يومي ومفرط، وكذلك الخضروات التي تكون مصدراً للتغذية غير الصحية، ففي العاصمة صنعاء أفادت مصادر طبية أن أكثر من 40 شخص أصيبوا بمختلف الأمراض السرطانية، وأمراض الكلى، والتسمم، بحسب تأكيدات بعض المرضى للأطباء في مستشفى الثورة بصنعاء عند الكشف عليهم، حيث أنهم كانوا يمضغون القات قبل إسعافهم إلى المستشفى.
وبحسب تقارير فإن منظمة الصحة العالمية رصدت ما يزيد عن 30 ألف حالة إصابة جديدة بالسرطان في اليمن ويعود السبب الأول إلى المبيدات السامة؛ وأن أكثر من ثلاثة ملايين لتر من المبيدات الممنوعة والمحرمة استخدامها دولياً تدخل اليمن سنوياً، ويستخدم 70 في المائة تلك السموم في رش القات، وبين التربة عند السقي.
حسب تقارير أن أكثر من 100 معتقل قد لاقوا حتفهم في السجون، وهناك 5 آلاف مختطف في سجون الحوثيين، وهناك العشرات في السجون السرية في الجنوب تحت إدارة الإمارات التي يتعرضون لانتهاكات غير قانونية وطرق تعذيب وحشية، وقد أدت إلى وفاة الكثير داخل السجون، ووفقاً لتقارير حقوقية أن هناك تفنن في أشكال التعذيب كالحرق، وكسر العظام، والضرب المبرح بأعقاب البنادق، والسحل، والصعق الكهربائي، بالإضافة إلى التعذيب النفسي، والتصفية الجسدية.
أشباح يومية: يواجهها المواطن اليمني كموت الفجئة والسكتات القلبية، وشبح الثارات، والاختلافات الشخصية وغيرها تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي تكاد تكون الغالبة لدى المرتادين والمطلعين، ولعل الدائرة تكتمل، والجروح تندمل، والوضع يتغير، واليمن السعيد يعود لتسعد الوجوه، وتشرق الثنايا من بين الشفاه، وتتغير الأحوال، (ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا).
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.