قبل فترة كانت مدينة معرة النعمان تباد أمام عيوننا ولم نستطع تحريك ساكن واليوم ريف إدلب، ولم تستطع جبهات الثوار المقابلة للنظام في المناطق الأخرى أن تطلق رصاصة باتجاه القاتل المجرم لردعه، فهل ما زلنا ثوارا؟ وهل ما زالت الثورة السورية موجودة؟ أم أنها قد انتهت ونحن الآن في مرحلة أخرى؟ إن الإجابة على هذا التساؤل وتوصيف المرحلة بشكل صحيح يعتبر أهم منطلق لإيجاد حلول منطقية لما وصلت إليه القضية السورية.
أربعون عاما قضاها شعبنا في ظل القمع والفساد وتدمير الحياة اليومية للإنسان السوري، كان المجتمع السوري يغلي، ولكن سلطة الأجهزة الأمنية كانت كفيلة بمنع هذا الغليان من الانفجار أو الظهور إلى السطح. ومع تصدع السلطة الأمنية للأنظمة العربية بفعل الثورة التونسية بدأ الخطر يلوح لنظام الأسد الذي أيقن أن الزلزال قادم، كانت فعلة عاطف نجيب الشنيعة في مدينة درعا الزلزال الذي صدع قشرة السلطة الأمنية لآل الأسد، فانطلق بركان الثورة هائجا لا يلوي على شيء. ولكن نظام الأسد حاول حرف هذا البركان الثوري عن هدفه فظهرت لدينا أشكال كثيرة من الأزمات المتداخلة مع مفهوم الثورة، منها الحرب الطائفية والجماعات التكفيرية ودخول قوات الاحتلال الروسي والإيراني.
بدأت الثورة السورية سلمية خالصة وكانت ثورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وتحت ضغط نظام الأسد وإجرامه، حاول الثوار والعساكر المنشقون حماية المظاهرات بالسلاح، فدخلت الثورة في نفق العسكرة، وأدخل النظام الفتنة الطائفية على خط الثورة فالتبست بها في مدن عدة كان أبرزها حمص، فانتقلت الثورة السلمية إلى مرحلة عسكرية ولم يؤثر ذلك في كيانها كثيرا إلى أن بدأت خطة تحرير المناطق وتقسيمها إلى عدو وصديق، حيث بدأت المناطق الصديقة تثقل الثوار بواجبات حياتها اليومية فبدأت كلمة ثورة تفقد معناها بشكل حقيقي، لقد حوَّلت سياسة الأسد الثورة إلى حرب، ثم صبغتها بصباغ طائفي وخاصة بعد إطلاق سراح الجماعات التكفيرية من سجونه وسجون العراق، ومع الأيام تحولت إلى حرب أهلية وحرب على داعش وحرب انفصال، ثم استنجد بالقوات الأجنبية بشكل رسمي فدخلت إيران وروسيا والجيوش الخمينية المتنقلة وتمركزت في مدننا وكأنها بلدانهم.
لقد استُخدم مصطلح الثورة للتعبير عن كل تلك المراحل، فهل كان ذلك صوابا؟ وهل كان من الصواب السير بأفكار الثورة الأولى في كل هذه المراحل، وخاصة أن كل توصيف يقتضي وسائل خاصة لا تناسب توصيفا آخر؟ هل ماتت الثورة؟ قبل أشهر طرحت هذا السؤال على كثير من الثوار الأوائل الذين قدموا وضحوا بالكثير وخسروا كما خسر الناس من مالهم وجاههم، وكانت إجابات الأكثرية أن الثورة قد انتهت ونحن أمام مرحلة جديدة سماها البعض مرحلة الاحتلال وسماها آخرون مرحلة الثورة الفكرية أو جيل التغيير وسماها فريق ثالث مرحلة جيل النهضة. وقد سبقهم برهان غليون فقال منذ 2012م: إنها تحولت إلى حرب أهلية والحروب الأهلية لا تنتهي إلا بصلح، رأى فريق أن الثورة ماتت وخلفتها حرب إقليمية لا تنتهي إلا بتفاهمات دولية.
وهنا علينا أن نفكر بجدية في توصيف المرحلة هل يمكن أن نسمي أنفسنا ثوارا ونحن لاجئون مشردون في تركيا وألمانيا وشرق الدنيا وغربها؟ وهل يمكن أن نعد الجيش الحر المرتهن للخارج وتفاهماته ممثلا للثورة؟ لعل أولى الناس باسم الثورة هم القاطنون في أطراف درعا تحت حصار الأسد ولكنهم ما زالوا يرفضون التسليم له فيقتل منهم كل مطلع شمس، ويفتكون بمن ظلمهم كل ليلة، أو أولئك المرابطون على أطراف إدلب يتلقون رصاص المحتل الروسي والنظام المجرم بصدورهم، وخنجر غدر إخوان المنهج في ظهورهم. لا يمكن أن نخلط في الأسماء، كما لا يمكن أن نعد معارك الجيش الحر ضمن الاتفاقيات الدولية في شمال سوريا جزءا من الثورة رغم أحقية الكثير منها ورفضنا لبعض الممارسات التي تحدث أثناءها.
إن التوصيف الدقيق للمرحلة التي تمر بها سوريا سيوفر علينا الكثير من الدم والجهد والوقت، فلن تجد مؤسسات الثورة الدينية نفسها مجبرة على إصدار فتوى لشرعية قتال يصور جزءا من ثورة الحق وليس في الحقيقة إلا نوعا من تفاهمات دولية، ولن نضطر لاتهام فلان وعلان بالخيانة لسلوكه طريقا آخر غير ما يقتضيه اسم الثورة، إن الكثير من الثوار الأوائل الذين ضحوا بكل غال ونفيس اعتزلوا الساحة لا عن جبن وخور ولكن لأنهم يعتقدون أن الثورة قد انتهت، وأن الدخول في معارك اليوم رمي للنفس في الهلاك على أيدي القوى الكبرى المتصارعة في المنطقة.
علينا كسوريين أن نتقبل الواقع ونعمل على تغييره، فهذا أفضل من رفض الاعتراف بوجوده.. فالمكابرة لا تصنع حلا بل ترمي بنا إلى الوراء حيث الشقاء والعذاب المرير، وإن سرعة المراجعة واتخاذ التدابير الآنية اللازمة هو الشيء الوحيد الذي ينقذنا مما نحن فيه، على مفكري الثورة السورية وقادتها أن يجتمعوا ويتخذوا قرارهم بروية، وإذا قرروا أن الثورة مستمرة فليتخذوا إجراءاتها، وأولها إشعال الثورة من جديد على كل الجبهات وفي جميع مناطق سيطرة الأسد ليتصل الداخل والخارج بثورتي لبنان والعراق، فإن لم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك إلا باستشارات دولية فليعلنوا للجميع أن الثورة قد انتهت وأننا نعيش حربا دولية.
إن كلام معظم السوريين المعارضين لنظام الأسد اليوم يقول التالي: إن الثورة كانت ثورة حق ولكنها اتخذت وسائل غير مناسبة، ولم تجد قائدا حقيقيا يأخذ بيدها ويوصلها إلى حيث تستحق، فوقعت في العراء وتخطفتها أيادي الساسة من أعداء وأصدقاء حتى سقطت شهيدة مظلومة في ساحة الصراع الدولي. وإن المرحلة الحالية هي مرحلة الاحتلال متعدد الجنسيات وأداته القذرة تتمثل بنظام الطائفة الوظيفي الذي يتربع على رأسه آل الأسد، وإن الواجب يكمن في تعبئة الناس لمواجهة هذا الاحتلال بدل قضاء الوقت في أشياء جانبية فارغة أبرزها محاولة إسقاط اللجنة الدستورية والائتلاف وتخوين ما بقي من مؤسسات الثورة في تحول واضح عن هدفنا في إسقاط نظام آل الأسد الطائفي وإخراج المعتقلين من السجون، وبناء دولة سورية عادلة.
الثورة تعني أن تضحي بكل ما عندك لأجل الحق الذي تعتقد، لا يمكن للإنسان أن يثور ويقدم أغلى ما يملك لشيء لا يعتقد أحقيته أو أهميته، وهذا ما لا يفهمه أصحاب النفوس الدنيئة، لهذا لا يصدقون أن إنسانا يضحي إلا لأجل المال أو خمسين دولارا، إن أصحاب النفوس الدنيئة لم يعتادوا البذل وإنما اعتادوا الأخذ والتسلط على ما في أيدي الآخرين، ولهذا يظنون بالآخرين ما يعرفون من أنفسهم، إن تضحية الإنسان بكل ما يملك تجعله لا يصدق أن ما ضحى لأجله قد مات أو قتل، كحال الأم يسافر ولدها ويتغرب وتخطفه المنية فتنقطع أخباره وتأتيها الرسل من كل مكان بأن ابنها قد هلك فلا تصدقهم وتعيش على أمل عودته.
إن الذين ضحوا بكل ما يملكون أملا بغد أفضل وحياة كريمة لا يمكن أن يتقبلوا فكرة موت الثورة تلك الأيقونة التي بذلوا لأجلها حياتهم ودماءهم. وهذا مفهوم عاطفيا، ولكنه لا يمكن أن يكون مشروعا ينقذ أهلينا ونهدم به نظاما فاسدا لنبني بدله صرحا متينا يشاد على العدالة والمساواة والحرية وكرامة الإنسان، رحم الله الثورة السورية لقد وقعت شهيدة مظلومة مخضبة بدمائها الطاهرة، واستشهد معها مئات الألوف من أبناء الوطن.. ونحن اليوم أمام مرحلة الاحتلال الأجنبي متعدد الجنسيات.
إن إعلان سوريا بلدا واقعا تحت سلطة الاحتلال سيوفر لنا رؤية حقيقة للواقع ويفتح لنا آفاقا أوسع لتحرير بلدنا سياسيا وعسكريا دون أن نقع في التهم التي يستدعيها النهج الثوري الذي لا يقبل تعدد الألوان، كما أن إعلان سوريا دولة تحت سلطة الاحتلال سيكون مدخلا مهما لإبطال اتفاقيات بيع البلد للأجنبي التي عقدها نظام الأسد مع الروس والإيرانيين، وإبطال جميع عقود البيع والشراء الفردية التي قام الإيرانيون والروس من خلالها باستملاك بيوتنا وأراضينا ومدننا وقرانا. إذا لم نعلن بلدنا محتلا وهذه الاتفاقيات جزء من وسائل الاحتلال فإن وطننا سيبقى مملوكا للأجنبي عقودا طويلة، وليس لنا منه إلا الذكريات.
في 2007 سمعتها من ضابط عراقي كبير يقول: الشعب العراقي شعب واع استوعب صدمة الاحتلال وأدرك أنه وقع تحته منذ الشهر الأول. بينما تجد شعوبا تمكث تحت الاحتلال سنوات طويلة ولا تشعر بذلك. تعجبت من كلامه حينها أشد العجب وقلت في نفسي: وهل إدراك شعب أن بلده محتل يحتاج إلى وعي؟ واستمر عجبي حتى رأيت ما حل بنا فزال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.