لا ينقطع عصرٌ ولا مكانٌ من صعوباتٍ متنوعةٍ تمر على المجتمعات الإنسانية، وتعد تلك العقبات التي تعترض حياة الناس اختباراً لقواها الفكرية والخلقية والروحية، فإما أن تنال منها وتستسلم وتغفل عن قدراتها فتتخلى عن خصوصيتها ومقومات بقائها وتألقها فيقفد حينها المجتمع الإنساني مُكَونا هاما من نسيجه، وإما أن ترفض كل جديد منكفأة على ذاتها غائبة عن متغيرات زمانها ومستجدات بيئتها وهذا الخيار يُنذر بالتهميش والضعف، وهنا كذلك يفقد المجتمع رصيدا اجتماعيا وثقافيا وحضاريا. وأما الخيار الثالث فهو الذي يواصل الليل بالنهار متأملاً مُفكراً مُحللاً مُتتبعا للمتغيرات مِن حوله، يوازن بين إمكاناته وقدراته والظروف المحيطة به، ثم يرتب أجندته ترتيباً أولوياً متوازناً، يرى التحدياتِ اختباراً واسعاً له ولغيره تستخرج منه أفضل ما فيه، ولا أعنى التقليل من التحديات وآثارها إنما نريد مواجهة القدَر بالقدَر، ودفع الشر قبل وقوعه، والتخفيف من آثار النوازل والتغيرات المتأزمة.
أعني بها أن ينشأ الشاب المسلم الأوروبي جامعاً بين انتمائه لدينه، وانتمائه لوطنه الأوروبي الذي نشأ فيه ودرج على أرضه، يفهم دينه فهما معتدلا لا غلو فيه ولا تهاون، لا إفراط ولا تفريط، يهتم بقضايا أمته الإسلامية لأنه جزء منها بما تقتضيه رابطة الأخوة الإسلامية الجامعة، ولا يقصر في اهتمامه بقضايا مجتمعه، يؤمن بأن الإسلام دين عالمي صالح لكل زمان ومكان قد تضمن تعاليما لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وفتاوى ومسائل تتغير بتغير موجباتها كما قرر العلماء في باب تغير الفتوى، ما ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين وما ذكره القرافي في الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وغيرهما من جهابذة العلماء.
هناك من يريد أن يتخذ الإسلامُ رُكناً مُنزوياً من الحياة، يريد الإسلام عبادة لا عقيدة، أو عقيدة لا روح فيها، لا تُحرك مشاعر ولا تُهذب طبعا ولا تُقَوم سلوكا، يريد معاملات تنخلع من ضوابط الشرع قواعده، يريد إسلامَ المسجد لا إسلام السوقِ والمالِ والإعلامِ والحياِة، يريد حركاتٍ ظاهرة لا أعمالاً مستقرةً في أعماق القلوب، تغييراً في الأشكال لا تغييراً للنفوس والعقول، تقليداً لا اجتهاداً، ابتداعاً لا اتباعا، ترتيلَ آياتِ الآخرة فقط، لا آياتِ العملِ والإنتاجِ والحض على اقتحام ميادين الحياة والإصلاح في الأرض.
ومن الواضح أن هذا التيار مُعجَبٌ جدا ببعض الطوائف التي ظهرت في الأمة -ولا زالت- تلك التي عكفت على عبادتها واعتزلت الحياة – إلا المطعم والملبس والمركب – ثم تركت الخلق للخالق وزعمت بأن القدر الأعلى هو الذي يسير الأحوال ولا دخل للإرادة البشرية بها- على حد قولهم الساذج "وضع العباد فيما أراد" ومن ثم فهذا الصنف هو قرة عينهم ويودُّوا لو أنَّ المسلمين جميعا اقتفوا آثارهم، فتبقى لهم الدنيا، ولتكن الآخرة من نصيب المساكين الزاهدين، وتلك قسمة عادلة في مذهبهم!
مسألة وجود مرجعية دينية للمسلم يحتكم إليها ويعتبرها هى الأعلى له تُشكل مصدر إزعاج وقلق حقيقي عند تيارات من المجتمعات الغربية، ويرون ذلك ي نوعا من الازدرواجية التي تهدد الدستور والقانون، ونحن نقول لهذا الفريق المتوتر: إنكم تتناقضون مع القيم التي ترفعونها والشعارات التي تنادون بها في الحرية والعدالة واحترام التعددية والتنوع الديني والثقافي، ولنا أن نوجه لكم اتهاما بالإزدواجية والظلم وعدم الاتساق مع الذات، والاعتداء على فلسفة الكون القائمة على الاختلاف، ثم إننا ننادى المسلمين في أوروبا بضرورة احترام قوانين البلاد ودساتيرها، لكن من حق كل مواطن أن يرفض كل قانون يتعارض مع ضميره الديني أو أن يفرض عليه ما يخالفه عقيدته، أو يمنعه من حرياته الدينية، ثم إننا نفرق جيدا بين المشاعر والمعتقد والتصرف الإنساني، نحن نكره الكفر ولا نكره الكافر، ونكره المعصية والذنب ولا نكره العاصي والمذنب، فالمسلم قد يتزوج امرأة غير مسلمة ويحبها، ويكون أقاربه غير مسلمين ثم يتعبد لله بحسن التعامل معهم وصلتهم ومحبتهم.
فأي ضير في اعتزازنا بمرجعتنا الإسلامية الممثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؟ ثم نولي وجههنا قِبَل فريق من المسلمين، ونقول: نحن نعيش في بيئة تحمل مخزونا وافراً من القلق والخوف من الإسلام فعلينا أن نترفق في التعبير عن مواقفنا وديننا، والحق أن رسالة القرآن الكريم تمثل صمَّام أمان للسلام الإجتماعي داخل المجتمعات الأوروبية في وقت تتصاعد فيه النزعات العنصرية وموجات الكراهية التي لا تستثني أحدا لو لم يلجمها العقلاء والحكماء.
إنَّ القرآن الكريم يدعو المسلمين دوما أن يُنَقبوا على كل مساحة مشتركة بين الناس، وعن كل قيمة تحقق السلام والمحبة، وابحثوا لى عن قيمة مادية أو أخلاقية تتكئء عليها الأممم في نهضتها لم يؤكد عليها القرآن ويدعو إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إننا في أوروبا نريد للأجيال الجديدة أن يَشِبُّوا صالحين ناجحين محبين لأوطانهم، فلماذا يضن علينا آخرون بذلك؟ ماذا يضير هؤلاء النفر إن جمع الشاب المسلم الأوروبي بين المسجد والجامعة؟ ماذا يعكر مزاجه إن رأى الشابُ أو الفتاة المسلمة مختبرهما محرابَ عبادةٍ؟ نحن نربي شخصية لها رأيها وقناعتها واستقلاليتها، أما أن يرفض الملأ من الناس أن يقول المسلم كلمة "لا " لقانون أو سلوك يصطدم مع دينه وعقيدته فذلك ما لا نقبله.
إن الإسلام يرفض أن يستعلى على أي مجتمعٍ أو تراثٍ أو حضارةٍ أو أمةٍ، وفي الوقت ذاته يرفض أن ُتنقص من قَدْره أمةٌ من الأمم، وشعارنا: "لا تَظلمون ولا تُظلمون"، إن هناك من يستكثر على الإسلام أن يبقى رافضا لبعض المسالك الأخلاقية المصادمة للأديان والأخلاق وفطر النفوس، ويزعجهم أن يقف صائحا في الناس أنْ ثوبوا إلى الله، ولن يستريحوا إلى أن يُوَقع لهم المسلمون على أنهم الصواب ونحن الخطأ! ألا ساء ما يحكمون. أعتقد أن ذلك يعكس أزمة داخلية وعقدة موجودة عندهم، ومن الواضح أنهم يتمنوا لو أن الناس كلهم هلكى معهم.
يجتمع نفر من الناس في الشرق والغرب على اختطاف الأجيال الجديدة من المسلمين، وذلك عبر سلسلة من الأدوات والوسائل منها: التشكيك في أصول الإسلام وقطعياته وتعاليمه والترويج لدين "كهنوتي" يكون طَيِّعا في يد مراكز القوى حول العالم، وليس له أن يعترض، أو يكون له رأى في تقرير مصائر العباد، وأروقة المال والإعلام والسياسة.
ويتولى كبره رهط من أصحاب المصالح الكبرى، أهل المطامع والمطامح ومن يرون الإسلام وتعاليمه عقبة في طريق أغراضهم التوسعية على حساب ضعفاء الناس، ويقود دفة تلك الحملات المجنونة حِفنة من الكارهين للإسلام والأديان، ومن لا يود أن يُنزل علينا خير من السماء، وما هؤلاء إلا امتداد لأجيال قديمة عمدت إلى تشويه الإسلام والغض من تعاليمه، والتهجم على كتابه بجهل فاضح، وبحقد فادح، والانتقاص من نبيه بالكذب والتزوير والتلفيق وإشاعة الشبهات الباطلة النابتة في عقولٍ كليلةٍ وقلوبٍ أعمتها الكراهية، وهؤلاء تتنوع أساليبهم وتتعدد أدواتهم، يسندهم مال وفير وجمع غفير، وكلما ذهب منهم جيل تسلَّم الراية غيره، ولمَّا كانت الحرب المباشرة حول ثوابت الإسلام لا تأتي بالنتائج المرجوة، فإن الخطط الأخرى يجب أن تخرج وتعمل عملها، وربما كانت أنجع في تحقيق الغاية، بخبث شديد ومكر تزول منه الجبال، وقد ساهم في هذا الدور الغير نبيل قوافل من جهابذة المستشرقين طعنا وتحريفا وتزييفا ومنهم هؤلاء المستشرق المجري المعروف "جولد تسيهر" وقد رد عليه الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- ردا قويا في كتابه: "دفاع عن العقيدة والشريعة".
وقد نجح جمهور المستشرقين في تكوين تلاميذ أوفياء نبتوا في أوطاننا ونطقوا بلساننا ولكنهم استبطنوا انتاج أساتذتهم وأعادوه مرة بعد أخرى في نسخ متكررة، والجديد منها في وقتنا الراهن يبعث على الغثيان. وأمام الموجة العالمية المتطاولة على قطعيات الدين تنبح حناجر كثيرة على الإسلام وتعاليمه، وعند التدقيق نجد تلك الصيحات قديمة يعاد تكرارها من وقت لآخر، ولعلي أشير هنا إلى بعض الكتب التي استوعبت فلسفة الاستشراق وتلاميذهم الذين صاحوا بأفكارهم في سماء العالم العربي ودور الحداثيين الجدد في ترويج أفكارهم وشبهاتهم في أثواب جديدة مستترين تارة خلف لافتة "التجديد"، وهجَّامين تارة أخرى.
منها: الكتاب الرصين القيم "التأويل الحداثي للثراث" للكاتب والباحث والمفكر السعودي إبراهيم السكران – فكَّ الله أسره وفرَّج عنه. ومما أعجب له أن بعض من غرته نفسه وهو لا يحسن قراءة جملة بشكل صحيح أن يتطاول على كبار العلماء ثم تراه يردد كببغاء منتجات سقيمة لصغار تلاميذ المستشرقين مُحرفا الكلم عن مواضعه مُؤولا بلا علم، ومُظهرا لجزءٍ من الحقيقة وكاتما لأغلبها، نابشَ قبورِ مسائلَ قد صارت رماداً، يشغب بها على الدين وأهله وهو يظن أنه يحسن صنعا! ووددت أن يكون لهؤلاء تآليف وكتابات رصينة يسجلون فيها نظراتهم "الإبداعية التجديدية" بدلا من طريقة ضربات اللصوص الخاطفة تلك.
مَن المستفيد من الجدل الفارع وضياع عمر الشباب على وسائل التواصل في نقاش تافه حول قضايا الجهمية والمعطلة وفرقٍ قد بادت، وعراك يتجدد في الأسماء والصفات، في بيئة يغرق فيها شباب المسلمين في الشبهات والشهوات ويقرع الإلحاد أبواب عقولهم؟! وبعد، فقد أشرنا في هذا المقال إلى بعض التحديات وتحليلها بالقدر المتاح، وعلينا أن ندرك حجم التحديات وخطورة المرحلة التي تستهدف شبابنا عقلا وقلبا وروحا وأن نضع برامجنا داخل المؤسسات الإسلامية التي تصنع معرفة علمية شرعية راسخة تصنع وقاية وتمكن الشباب المسلم من فهم دينه وتعزيز الانتماء له والقدرة على التعريف به، ولعنا نكمل في مقالات أخرى حول التحديات الأخرى إن أذِنَ لنا رب العالمين بحوله وطوله. والحمد لله أولا وآخراً.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.