شعار قسم مدونات

تود فيليبس.. من الكوميديا إلى دراما نفسية لشخصية شريرة!

blogs تود فيليبس

يقول "آرثر فليك" لطبيبته: "قبل وقت قصير لم يكن هناك أي أحد يراني، حتى أنا لم أكن أعرف إن كنت موجود فعلا… قلت طوال حياتي لا أعلم إن كنت موجود أصلا… لكنني أعمل والناس بدؤوا في ملاحظة ذلك…".

هناك مقولة لفرانز كافكا في يومياته يقول: كيف أصبحت الشخص الذي أنا هو؟ هل أنا نفسي فعلا، أم صنع مني الآخرون بالأحرى الشخص الذي أنا هو؟ يمكنني أن أقول أن الجوكر هو عبارة عن عاطفة آرثر فليك المشوهة والمحروقة ولأن هذا التشوه لن ينتهي أبدا، سيبقى الجوكر إلى الأبد. لقد أحببت شخصية الجوكر في عالم القصص المصورة ومن خلال ظهوره في الأفلام، خصوصا في فيلم فارس الظلام (2008)، ولطالما تساءلت عن مبرر للشر الذي يجسده وكيف أصبحت هذه الشخصية إلى ما هي عليه؟ وكنت على يقين أنني سأشاهد فيلم يعرض لنا خلفية الجوكر. ولكنني لم أتوقع أبدا أن "تود فيليبس" سيقدم لنا حكاية الجوكر بهذه السوداوية الجميلة وينحت نفسيتها نحتا سوداويا رائعا.

تدور أحداث الفيلم في الثمانينات حول شخصية آرثر فليك الذي يعاني من ظروف قاسية، وهو شخص مضطرب نفسيا ومنبوذ اجتماعيا مصاب بالهوس الضاحك (الضحك بلا سبب). يعيش وحيدا مع أمه ويعمل كمهرج، يحلم أن يصبح كوميدي ولكنه دائما ما يتعرض للتنمر ويتلقى السخرية والعنف من المجتمع فيتحول إلى شخصية شريرة تقوم بالانتقام بحق كل من أساء إليها. هل حقا أن الشرير في هذا الفيلم هو عبارة عن آرثر الضحية التي تشربت من الشر أم المجتمع هو المسؤول عن زرع نزعة الشر في هذه الشخصية؟ أعتقد أن المجتمع هو الالة التي جعلته ينفجر ويتحول إلى شخصية شريرة ناقمة على المجتمع.

النقطة الأهم والتي زادت من القيمة النفسية للفيلم هو قدرة المخرج على إدخالنا في عقل آرثر وجعلنا على دراية كاملة بجميع أفكاره وتصوراته وأوهامه حتى يتسنى لنا فهم نفسيته وتقبل تصرفاته بكل منطقية

الفيلم يبدأ بأسوأ نقطة في حياة البطل ثم يبدأ العنف بالتصاعد تدريجيا. هذا الجانب العنفي كان بمثابة عنوان لكل مرحلة من مراحل تطور الشخصية من آرثر فليك إلى الجوكر. ومن الضروري التطرق إلى ذلك العنف بكل تفاصيله، لأن الشخصية مرت بعدة مراحل نفسية عبر فترات زمنية مختلفة. المرحلة الأولى في حياته كانت صعبة، بدأ فيها كإنسان بسيط يعمل كمهرج، يتعرض لكافة أنواع الإهانة والعنف من المجتمع الذي كان يراه أنه رجل ضعيف لا يمكنه الدفاع عن نفسه. كان يفتقد للحب ويحتاج للاهتمام ولكن المجتمع همشه وجعله يبدو لا مرئي، حتى هو كان لا يشعر بوجوده ولا شيء يدعمه عاطفيا.

حتى تلك المستشارة النفسية كانت مستفزة وباردة ولا تعير حديثه اهتماما، فعندما سألها قائلا: هل هو أنا فقط أم أن الوضع يصبح أكثر جنونا بالخارج. ترد عليه ببرودة: "أن الناس منزعجون وهو في معاناة ويبحثون عن عمل. إنها أوقات عصيبة". وكأنها تحاول تبرير بشاعة المجتمع. حقا استفزت مشاعري هذه المرأة التي تتصرف ببلادة وكأن الشخص الذي أمامها خال من المشاعر وأنه لا شيء. من المفروض أنها ستقدم له الدعم النفسي اللازم من أجل تجاوز أزمته. ولكنها زادت نفسيته سوءا. ومع طرده من العمل تنتهي هذه المرحلة، ولكن هل سيبقى على هذا الحال أم سيحدث منعطف لمسار الأحداث في حياته؟

تبدأ المرحلة الثانية في حياته وتأخذ مسارا مختلفا، حيث يقوم بالقتل لأول مرة من باب الدفاع عن النفس، حقا كان هذا المشهد رائع وغير متوقع فبعد إطلاق النار تغيرت تعبيراته الجسدية، هو نفسه لم يتوقع أنه سيرتكب جريمة كهذه. وبعدها يقوم برقصة جميلة عبرت عن حالته الشعورية في تلك اللحظة وكأنها نشرة نفسية تنبأ ببداية حالة نفسية جديدة. يقتل أمه من باب الحقد والغل بعدما سرق ملفها الطفي واكتشف أنها كانت مصابة بالذهان واضطراب الشخصية واكتشف أنها تبنته وتم الاعتداء عليه. يقتلها بدم بارد ويقول لها: كنت أعتقد أن حياتي مأساة. لكن الآن أدرك أنها كوميديا لعينة.

بعد تبرجه واستعداده لحضور برنامج "موراي" كضيف شرف، يقوم بقتل زميله من باب الانتقام لأن هذا الأخير هو الذي كان سببا في طرده من العمل وهو الذي أعطاه المسدس الذي ارتكب به هذه الجرائم. لم يكن شخص يقتل الجميع بل كان يختار ضحاياه ويعرف جيدا من يؤذي ومن لا يؤذي. وبعد نزوله من البيت وتمايله على السلم بتلك الرقصة المعبرة تنتهي المرحلة الثانية. المرحلة الثالثة شملت الربع الأخير من الفيلم، وتعتبر مرحلة انتقالية له حيث تبدأ تتلاشى شخصية آرثر وتبدأ بوادر ظهور الفوضى في شخصية الجوكر ونلاحظ أن حالته النفسية تتغير كليا. وبعدما كان يصعد الدرج المؤدي إلى البيت وهو ضعيف ومكسور، ها هو الآن يخرج إلى العالم بطريقة مختلفة وهو يبلغ ذروة الثقة بالنفس وينزل من نفس الدرج وهو يرقص ويتخيل الموسيقى حاملا سيجارة بين شفتيه وكأن تلك الرقصة تعبر عن شعوره الداخلي الذي بلغ ذروته. 

يدخل برنامج موراي ويتذكر كيف سخر منه سابقا، ويجلس بطريقة جميلة ويعترف له بكامل الجرائم التي ارتكبها ويكون بينهما حوار ناضج حيث يحاول الجوكر أن يخبرنا أنه ضحية المجتمع. ثم يقتل موراي من باب رد السخرية. في هذه المرحلة تكتمل شخصية الجوكر، ونرى أن المخرج جعلها تنضج وتخرج في الوقت المناسب. هذا الفيلم بالكامل هو قصة عن شخصية آرثر فليك وتفاصيل حياته وجميع الظروف التي جعلته يتحول إلى شخصية شريرة. وجميع المشاهد شهدت معاناة نفسية حقيقة لهذه الشخصية عبر مراح.. حيث يمكننا القول أن حبكة الفيلم خدمت شخصية آرثر بشكل كامل.

والنقطة الأهم والتي زادت من القيمة النفسية للفيلم هو قدرة المخرج على إدخالنا في عقل آرثر وجعلنا على دراية كاملة بجميع أفكاره وتصوراته وأوهامه حتى يتسنى لنا فهم نفسيته وتقبل تصرفاته بكل منطقية. هذه المشاهد خلقت رابطة عاطفية صلبة بيننا وبين الشخصية. والمشاهد العاطفية الوهمية "علاقته بجارته" وجدتها حركة جيدة من المخرج، لأنها بينت حاجته وفقدانه للحب. ولأن الحب والدعم العاطفي لم يكن يحدث حقا في حياته، كان يلجأ إلى خياله ليختلق تلك المشاعر التي كان يحتاجها.

اعتمد المخرج على أسلوب المفاجأة والصدمة للمشاهد من خلال تلك الأحداث التي لا تعرف إن كانت تحدث حقا أم هي أحداث وهمية تحدث فقط داخل عقله. كما أبدع في خلق عنصر القلق والتوتر للمشاهد من خلال المشاهد التي كان آرثر يعاني فيها من الهوس الضاحك. يبدو أن تود فيليبس امتلك رؤية عظيمة وعميقة، استطاع إيصالها إلينا تدريجيا بالموازاة مع التحول التدريجي لشخصية آرثر فليك. فأي شخص منا يمكن أن يكون ضحية مجتمعه وسيتغدى من بشاعة هذا المجتمع. وجميعنا مسؤولين في تحول أي شخص إلى النسخة الأسوأ منه لأن المجتمع هو الالة المسؤولة عن صناعة هؤلاء المرضى النفسيين.

الإخراج كان رائعا بكل ما يحتويه والموسيقى التصويرية رائعة وتقريبا شكلت جزء كبير من الفيلم، وساهمت في ترجمة المشاعر النفسية للشخصية بمعنى أنها جاءت وجعلت من بعض المشاهد لحظات استثنائية ستبقى خالدة في مخيلة المشاهد. الألوان في الفيلم كانت قاتمة ومظلمة، ومثلما كان هناك تدرج في العنف، كان هناك تدرج في الألوان التي جاءت كانعكاس لحالة آرثر ودواخله. أداء خواكين فينيكس كان استثنائي ومبهر، فعلا استطاع أن يجسد لنا شخصية آرثر، وتلك القدرة التمثيلية كانت سحرية لدرجة تجعلنا نصدق أنه حقا يعيش تلك المعاناة بكل تفاصيلها. لغة الجسد كانت رائعة وساهمت بشكل كبير في التعبير عن درجة سوء حالته النفسية. أما التحول الجسدي لخواكين فينيكس كان مثير للانتباه وله دور كبير في رسم المعالم للتركيبة النفسية لآرثر.

صراحة لا مجال للمقارنة بين "هيث ليدجر" و"خواكين فينيكس". فهذا الأخير جسد شخصية آرثر الضعيف وظروفه القاسية التي جعلته يتحول تدريجيا إلى شخصية شريرة. أما "هيث ليدجر" فجسد شخصية الجوكر الشريرة والناضجة التي هي امتداد للشخصية التي أصبح عليها آرثر. فلا داعي لفلسفة المقارنة الزائدة، فالممثلان لم يقدمان لنا نفس الشيء حتى يتسنى لنا الاختيار من هو الأفضل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.