لطالما مثلت المؤسسة العسكرية في مصر والوطن العربي الحصن المنيع للحفاظ على نظام الحكم والدولة على مر التاريخ؛ ورغم أنه كان أمرًا معلومًا بالضرورة، فلطالما مارست المؤسسة العسكرية هذا الدور من وراء الستار، ولكن في أعقاب ثورات الربيع العربي وبعد وصول مدنيين وتحديدًا وصول حاكم من التيار الإسلامي للحكم في أول انتخابات ديموقراطية تشهدها مصر، تصدرت المؤسسة العسكرية للظهور على الطاولة السياسية بشكل علني مرة أخرى -سبقها ظهورها عقب ثورة يناير وتوليها الفترة الانتقالية. وبعد مرور سنة من حكم الرئيس الراحل محمد مرسي استطاعت المؤسسة العسكرية السيطرة مرة أخرى على الحكم من خلال أحداث ٣٠ يونيو ٢٠١٣ والتي عقبها بيان ٣ يوليو.
منذ بيان ٣ يوليو استطاع الجيش السيطرة على جميع مفاصل الدولة بما فيها الأجهزة الأمنية التي لم تكن تابعة لمؤسسة الجيش قبيل ثورة يناير، وزادت السيطرة مع وصول عبد الفتاح السيسي لرئاسة الدولة، وتحولت المعادلة صفرية بين الإسلاميين والعسكر استطاع العسكر خلالها إقصاء الإسلاميين من المشهد، عقبها إقصاء التيار العلماني واليساري والحركات الشبابية وبعض الرموز السياسية المستقلة والذين لم يكونوا بنفس ثقل وشعبية التيار الإسلامي بالبلاد، نتيجة لذلك أصبح العسكر يدير المشهد وحيدًا دون وجود أي عائق أو معارض له، حيث استطاع السيسي قمع الحراك والمظاهرات التي كانت تخرج للشوارع رافضة الحكم العسكري، وفي أقل ٣ من أعوام منذ توليه للحكم تمكن السيسي من قتل كل حراك سياسي ممكن في البلاد.
في ظل حالة الفراغ السياسي للبلاد قام السيسي بفرض قبضته الأمنية على جميع مؤسسات الدولة العامة والخاصة مما أدخله صراع جديد مع مؤسسات الدولة العميقة وعلى رأسها المخابرات العامة – والأمن الوطني. صراعٌ خفي حسبما فسر بعض الخبراء والمحللين، أنه بدأ حين قام السيسي بتوسيع صلاحيات نجله محمود السيسي داخل جهاز المخابرات العامة وعينه وكيلا للجهاز، كما أقال رئيس الجهاز وعين بدلًا منه عباس كامل مدير مكتبه السابق؛ رئيسا للجهاز، كما قامت المخابرات الحربية بفرض قبضتها على جهاز الداخلية، بينما استطاع السيسي إقالة جميع أعضاء المجلس العسكري بما فيهم وزير الدفاع صدقي صبحي والذي كان يملك مادة دستورية بتحصين منصبه لمدة ٨ سنوات، كما أقال وزير الداخلية وأجرى تعديلات جذرية داخل الأجهزة الأمنية شملت تعيين بدائل للقيادات؛ تابعة له بشكل شخصي.
(مدير المخابرات العامة اللواء عباس كامل)
مع انتهاء مدة السيسي الرئاسية الأولى واجه تحديًا كبيرًا لإعادة -انتخابه- لمدة ثانية فأجرى تعديلا دستوريا يزيد من صلاحيات الرئيس، في ظل عدم وجود حياة سياسية حقيقية وعدم وجود شخصيات بارزة ومؤثرة في المشهد السياسي بدا فوز السيسي برئاسة الدولة لمدة ثانية سهل وخصوصا في ظل وجود دعم دولي وإقليمي له، إلا أن السيسي فوجئ بظهور شخص قوي ومؤثر من المؤسسة العسكرية ويملك أيضا نفوذ إقليمية ودولية وهو رئيس الأركان الأسبق سامي عنان، مما جعل السيسي يهتز واضطر لدخول صراع جديد ومبكر قبل الانتخابات وقام باعتقال رئيس الأركان الأسبق وإبعاده عن المنافسة، والمؤكد أن عنان الذي أعلن دخوله السباق الرئاسي لم يكن من قناعته الشخصية وحسب بل المؤكد أنه كان يمثل توجه داخل المؤسسة العسكري بوجود بديل للسيسي، وباعتقال عنان زادت عداوة السيسي مع أشقاءه العسكر.
عقب فوز السيسي برئاسة الدولة لمدة ثانية استمر اقصاءه للقيادات العسكرية يتزايد بشراهة عن البداية وكأن ترشح عنان كان رسالة تحذيرية له لم يغفلها السيسي، فأقال كبير من قيادات الجيش والشرطة الوسطى وأجرى تعديلات شاملة في المحافظين والأجهزة الرقابية من أبرزها القضاء، زاد الاختناق السياسي بالبلاد وأصبح السيسي الحاكم بأمره لا يوجد من يرى أو يعلم غيره، فالرجل استطاع القضاء على كل منافسيه بما فيها الأجهزة الأمنية والرقابية «الدولة العميقة» التي تدير البلاد منذ عشرات السنين، لكن ما لم يدركه السيسي هو أن أعدائه كانوا يزيدون يوما بعد يوم وأن الأجهزة الأمنية -الدولة العميقة- لن ترضى الرضوخ بهذا الشكل المهين.
فجأة وبدون مقدمات ظهر الفنان والمقاول محمد علي، الرجل الذي استطاع هز عرش السيسي من أول فيديو أذاعه وقام بنشر ملفات فساد تمس السيسي شخصيا، والتي يرى مراقبين أن ما قاله محمد علي لا يعد 10 بالمائة من حقيقة فساد السيسي؛ لكنه استطاع استفزاز السيسي حتى عقد مؤتمرا شبابيا ليرد عليه بنفسه، لم يعلن محمد علي حتى الأن من يقف وراءه، إلا أن الرجل في كل فيديوهاته ضمن رسالة واضحة أن الجش والشرطة أجهزة صالحة تريد مصلحة البلاد وأنهم غاضبين مما يفعله السيسي بمصر، يشير ظهور محمد علي إلى أن المعارضة الحقيقية الآن للسيسي هي من داخل معسكره الأمني والعسكري الذي عمل على تحييده خلال السنوات الماضية، مما يغير المعادلة السياسية في المشهد، وأصبح الصراع الدائر بين العسكر والسيسي.
إذا فقد تحول الصراع من صراع سياسي أيديولوجي إلى صراع جنرالات ترفض إقصائها عن إدارة البلاد، ويبدو الآن توجه السيسي لإعادة نموذج مبارك في التوريث، حيث تشير المؤشرات السياسية أن السيسي يريد إعادة هيكلة الدولة بأن تكون تابعة لشخصه وفي حالة عدم وجوده يتولى نجله محمود السيسي البلاد خلفا له.
لطالما وقف الدعم الدولي والإقليمي وعلى رأسه إسرائيل وأمريكا بشكل رئيسي خلف السيسي حيث استطاع الرجل اقناعهم بصفقة القرن وأنه لا بديل لهم من أجل تحقيقها إلا بوجوده في سدة الحكم، كذلك كان دعم السعودية والإمارات للسيسي من أجل مصالحهم في المنطقة، إلا أن المشهد الإقليمي والدولي خلال أخر عامين يتغير جذريًا وبشكل سريع فكلا من السعودية والإمارات يواجهون مشاكل كبيرة في اليمن، أما أمريكا فتواجهها مشكلة إيران، وإسرائيل في ظل النتائج الأولية تشير لرحيل نتنياهو الداعم الرئيسي للسيسي من الحكم.
أصبح الظهير الإقليمي والدولي الذي يدعم السيسي مشغولا بمشاكله الداخلية والخارجية مما يقلل من دعمهم للسيسي وأصبح لديهم أولويات ومشاكل أخرى يحتاجون لحلها مما يضعف موقف السيسي في استمراره للحكم، ولم يفت ذلك على الجنرالات الذين يريدون القضاء على السيسي واقتنصوا الفرصة السانحة للتخلص منه، وبالاستفادة من «أسرار محمد علي» يعمد الجنرالات إلى الحشد الشعبي لتوفير مشهد منطقي لدى الغرب من تظاهرات تلبية لدعوة محمد علي يتبعها بيان من الجيش – الحامي للحياة المدنية والسياسية – بتلبية مطالب المتظاهرين برحيل السيسي.
المدهش أن السيسي ترك المشهد برمته وسافر إلى أميركا لحضور مؤتمر الأمم المتحدة وسعى خلاله لاستجداء القوى الإقليمية والدولية لدعمه في استمرار الحكم، ولا توجد مؤشرات حتى الآن ما إذا آتى هذا الاستجداء ثماره أو عما سيكون الثمن مقابله. إلا أن محاولة السيسي حصر المشهد في الإسلام السياسي قوبلت بخطاب واضح في رسالة الجنرالات أنه لا عودة للإسلاميين للحكم مرة أخرى وأن بديل السيسي هو رجل عسكري لا محالة، مع إعطاء مساحة من الحريات والممارسة السياسية للمعارضة في ظل مساحة محدودة نموذج حكم مبارك.
وينتظر كثير من المصريين نهاية صراع الجنرالات آملين في رحيل السيسي الذي استطاع كبت وقتل وسجن آلاف المصريين منذ توليه حكم البلاد، بالإضافة إلى ما سببه من الأعباء الاقتصادية وتردي الحالة المعيشية للمواطنين، وأصبح السؤال الأساسي لدى السياسيين والنشطاء هل ستنجح ثورة الجنرالات وتخلص مصر من حكم السيسي؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.