يفرض خطاب المقاول محمد على وما ترتب عليه من آثار ضرورة التحليل الموضوعي لأبعاد الموقف الراهن في مصر في ضوء اعتبارات الزمن والاستمرارية والمضمون، طبيعة وآليات ردود الأفعال، التفسيرات المحتملة، والأهداف المتباينة للأطراف الفاعلة. ويفضي التحليل الموضوعي لهذه الأبعاد إلى صعوبة القول بأن ما يحدث هو احتجاجات أو ثورة شعبية حقيقة، بل إن الاحتمال الأرجح أن يكون محاولة لانقلاب ناعم من داخل النظام ذاته على الرئيس عبد الفتاح السيسي والموالين له.
فمنذ نشر محمد على أول مقطع مصور له في الرابع من سبتمبر 2019 وحتى السادس عشر من نفس الشهر، تركز حديثه حول تفاصيل تتعلق بالفساد المالي الذي يمارسه بعض قادة المؤسسة العسكرية وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسي. كما تضمنت التأكيد على كونه ليس مسيسا بشكل أو بآخر، وأن كل ما يعنيه هو الحصول على مستحقاته المالية المتأخرة لدى القوات المسلحة.
وقد نالت تلك المقاطع المصورة اهتماما كبيرا من جانب وسائل الإعلام المعارضة لنظام الانقلاب العسكري الحاكم في مصر، الأمر الذي ساهم في انتشارها بشكل كبير. كما ساهمت ردود أفعال الموالين للنظام الحاكم في انتشار مضمون خطاب محمد على، رغم محاولاتهم التقليل من شأنه وتشويهه. لكن ما زاد الأمر سوءا هو إقرار السيسي نفسه في السادس عشر من سبتمبر 2019 بصحة أقوال محمد على فيما يتعلق بالفساد المالي المشار إليه، وإعلان عزمه على استمرار هذا الفساد في تحد كبير للشعب ولكل أجهزة النظام الحاكم التي نصحته بعدم الحديث عن هذا الموضوع.
وعلى الرغم من أن محمد على كان قد أكد أنه ليس مسيسا بشكل أو بآخر، وأن كل ما يعنيه هو الحصول على مستحقاته المالية المتأخرة لدى القوات المسلحة المصرية، إلا أن طبيعة خطابه قد تغيرت بشكل ملحوظ بعد حديث السيسي هذا. فتحول من المطالبة بمستحقاته المالية إلى الدعوة لثورة ضد السيسي، مؤكدا أن هناك ضباطا بالجيش والشرطة يدعمون مطالبه تلك، ومطمئنا الثوار المحتملين إلى أن تظاهراتهم لن تواجه بالقمع. كما ظهرت في الوقت ذاته رسائل ودعوات داعمة لمطالب محمد على بالثورة ضد السيسي وذلك من أشخاص يقولون إنهم ضباطا عاملين أو سابقين بالجيش والشرطة، ومن متحدثين باسم رموز عسكرية رفيعة الرتب، وكذلك من قوى سياسية معارضة بالداخل والخارج.
كما تزامنت دعوة محمد على للثورة مع مطالبته وزير الدفاع الفريق محمد زكى بإلقاء القبض على السيسي، الأمر الذي يطرح سؤالا حول ماهية ما يدعو إليه محمد على تحديدا، هل يدعو إلى ثورة شعبية أم إلى انقلاب عسكري، أم أنه يروج لنفس الخدعة القديمة "ثورة شعبية يحميها الجيش"؟ ومن الغريب حقا أن تنساق قوى المعارضة وراء دعوته تلك وكأنما معركتهم ضد السيسي فقط.
وكان محمد على قد حدد يوم الجمعة الموافق 20 سبتمبر 2019 لبداية التظاهرات ضد السيسي، وروجت قوى المعارضة لتلك الدعوة. وكان من اللافت للنظر أن يغادر السيسي مصر في اليوم نفسه متوجها إلى الولايات المتحدة الأمريكية لحضور اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها الرابعة والسبعين، وذلك قبل عدة أيام من افتتاحها. وعلى الرغم من نفى وسائل الإعلام الموالية للسيسي ونظامه، أو على أحسن الأحوال تقليلها من حجم المظاهرات التي اندلعت تلبية لدعوة محمد على، فقد أبرزتها وسائل إعلام المعارضة بوصفها ثورة شعبية ضخمة.
ويبدو أن قوى المعارضة السياسية قد نسيت أو تناست الدروس المستفادة من ثورة يناير 2011 ومن الانقلاب العسكري 2013. كما يبدو أنها تتجاهل أن معركتها الحقيقة ليست مع السيسي فقط بل ضد نظام الحكم العسكري برمته، فما السيسي إلا واجهة أكثر قبحا ودموية من سابقيه من واجهات المؤسسة العسكرية الحاكمة في مصر منذ قيام دولة العسكر عام 1952. ولا يمكن أن تكون قوى المعارضة محقة بدعم انقلاب عسكري على آخر، فالنضال من أجل قيم الحرية والديموقراطية وليس من أجل تحسين شروط العبودية تحت حكم عسكري.
وبغض النظر عن حجم تلك التظاهرات، فإن إتاحة الشوارع والميادين للمتظاهرين، وعدم مواجهتها بالقوة الغاشمة كما اعتاد نظام الانقلاب العسكري، قد يعكس رضا بعض قيادات المؤسسة العسكرية والأمنية عنها بل والإعداد المسبق لها. الأمر الذي يشير إلى انقسام وصراع أجنحة داخل النظام الحاكم. وفى حال كان ذلك حقيقة فإن تلك التظاهرات لا تعدو كونها غطاء مدنيا قد تم ترتيبه للتمهيد لانقلاب عسكري ناعم ضد السيسي والموالين له، مع ضمان عدم خروج الأمور عن سيطرة المؤسسة العسكرية كما حدث سابقا.
وفي حال تحول هذا التصور إلى واقع، فإن ذلك لن يكون بالشيء الجديد من جانب المؤسسة العسكرية أو وزير الدفاع الذي سبق له عام 2013- وقت أن كان قائدا للحرس الجمهوري- أن ساهم في الانقلاب على الرئيس محمد مرسى أول رئيس مدني منتخب في مصر، وذلك بالمخالفة للدستور والقانون والقسم الوظيفي. كما أن الشعب المصري سوف يكتشف عما قريب أنه لم يكن سوى لعبة في أيدي عسكر انقلبوا على بعضهم البعض، ولن يحقق الشعب آماله في الحرية والديموقراطية والحياة الكريمة التي يناضل من أجلها، ولسوف يكتشف حينها أن محمد على ودعوته لم يكونا سوى خديعة من العسكر للإبقاء على هذا الشعب في حظيرة الطاعة المذلة، تماما كما حدث في الثلاثين من يونيو 2013. ولسوف يدفع المصريون من حياتهم وكرامتهم ودمائهم أثمانا غالية كما دفعوا ولا يزالون منذ انقلاب 2013. إن المعركة الحقيقية في مصر هي معركة وعى في المقام الأول، فهل منا رجل رشيد؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.