أٌسْدِلَ الستار يوم 15 سبتمبر على أول جولة من الانتخابات الرئاسية التونسية والتي تنافس فيها 26 مرشحا ينتمون الى مختلف الاتجاهات السياسية والمشارب الأيديولوجية، وتشير النتائج الرسمية التي نشرتها الهيأة المستقلة للانتخابات الى تصدر المرشح المستقل قيس سعيد لقائمة المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية التونسية بنسبة 18.4 بالمائة يليه رجل الأعمال نبيل القروي المحتجز لدى السلطات التونسية بسبب قضايا احتيال ضريبي وتبييض أموال بنسبة 15.5 بالمائة.
كما تحصل مرشح حزب حركة النهضة الاسلامي عبد الفتاح مورو على المرتبة الثالثة بنسبة 12.8بالمائة من الأصوات يليه وزير الدفاع السابق عبد الكريم الزبيدي بنسبة 10.7 بالمائة. وبهذه النتيجة قلب أستاذ القانون الدستوري المتقاعد قيس سعيّد الطاولة على مرشحي الأحزاب الكبرى التي وحتى وقت قريب لم تكن تعتبره منافسا جديا في السباق الرئاسي أمام منافسين من العيار الثقيل مثل مرشح حزب حركة النهضة مورو ورئيس الحكومة يوسف الشاهد ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي. ولكن سعيّد تمكن من احداث المفاجأة بعد أن حقق قفزات مذهلة في استطلاعات رأي خلال الفترة الانتخابية ووجّه يوم الاقتراع الضربة القاضية لمنافسيه.
وعلى عكس المرشحين الرئيسيين يوسف الشاهد وعبد الكريم الزبيدي اللذان قادا حملات انتخابية جٌنِّدَتْ فيها منابر إعلامية مأجورة ولوبيات مالية متنفذة لم تحظ الحملة الانتخابية لسعيّد بأي بهرجة أو صخب اعلامي أو مظاهر تعبئة عارمة بل إنها تميزت بالتقشف والعمل التطوعي للجماهير المساندة له وأغلبها من الشباب والطلبة. وعلى الرغم من افتقاره لأي تجربة سياسية أو انتماء حزبي فانه نجح في لفت انتباه عامة الشعب بعد ثورة 2011 أثناء استضافته من طرف المنابر الإعلامية التونسية كرجل قانون لشرح مسائل قانونية شائكة أو غموض في الدستور. كما ذاع صيته بإتقانه المبهر للغة العربية في كل مقابلاته وتصريحاته للصحافة وهي سمة حافظ عليها في كل لقاءاته الشعبية والرسمية وآخرها في المناظرة التلفزيونية لمرشحي الرئاسة. ومن المرجح أن هذه الفرادة ستتحوّل تباعًا إلى عائق في مجهوده الاتصالي أثناء الجولة الثانية حينما يريد الناخبون خطابًا يشبههم قدر الإمكان ولا يظهر متعاليًا عليهم.
أدرك نبيل القروي وهو الآتي من قلب المنظومة ان موجة الغضب بسبب تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي عاتية فركبها وتمكن من خلال تلفزيونه والأعمال الخيرية التي يقوم بها من الدخول الى بيوت المهمشين في المناطق الداخليّة من البلاد |
وفي هذا الإطار يعتبر صعود قيس سعيّد ونبيل القروي بمثابة الزلزال الذي دك المشهد السياسي التونسي وصفعة لمنظومة حكم 2011-2019 الفاشلة والمهترئة بحكامها ومعارضتها. وهنا أتكلم عن نفس المنظومة التي ارتهنت مستقبل البلاد باسم التوافق المغشوش وعجزت عن النهوض بالواقع الاجتماعي والاقتصادي للجهات المهمشة والمعوزة. وكنتيجة لذلك أضحت السياسة في نظر الكثيرين رديفا لاستفحال الفساد والمحسوبية والسياحة الحزبية والافلات من العقاب.
ترشّح نبيل القروي مؤسّس قناة نسمة للانتخابات الرئاسيّة بعد تأسيسه حزب قلب تونس. وهو ليس بغريب أو دخيل عن منظومة حكم 2011-2019 فقد كان أحد مؤسسي حزب نداء تونس وأعمدته قبل أن ينقلب على وضع ساهم في صناعته ويقلب الطاولة على نخب استنزفت بعضها البعض في صراع المواقع والنفوذ.
أدرك نبيل القروي وهو الآتي من قلب المنظومة ان موجة الغضب بسبب تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي عاتية فركبها وتمكن من خلال تلفزيونه والأعمال الخيرية التي يقوم بها من الدخول الى بيوت المهمشين في المناطق الداخليّة من البلاد، ونظرا لغياب مؤسسات الدولة فقد كان من السهل عليه ملئ هذا الفراغ مما ساعده على كسب تعاطف الناس والتمتّع بقاعدة انتخابيّة لافتة.
رغم نجاح القروي في بلورة مشروع سياسي بواجهة خيرية مستندًا على ماكينته الاعلامية والاشهارية وتعزيز صورته كرجل عطاء لناخبين يحلمون بدولة العطاء والرعاية فانه يقبع حاليا في السجن بسبب قضايا غسيل أموال وفساد. ولا يخفى على أي متابع للشأن المحلي التونسي أن القروي متحيل شعبوي يستعمل أساليب مافيوزية قذرة وقد يكون مشروع ديكتاتور أشنع من بن علي نظرا لمهاراته الاتصالية وإمكانياته الإعلامية الهائلة علاوة على علاقاته المؤكدة مع رموز فساد وإرهاب (شفيق جراية وعبد الحكيم بلحاج).
لقد فشلت النخب السياسية في تونس (الأحزاب والحكومات المتعاقبة) في احداث تغيير جذري في الواقع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد في ظل مديونية خانقة وتردي للمقدرة الشرائية وغلاء المعيشة وتفشي ظاهرتي الفساد والتهريب. وقد أدى ذلك الى انخفاض قياسي في مستوى ثقة التونسيين في الأحزاب الحاكمة والمعارضة معا. ولو نتمعن في نتائج الانتخابات البلدية لسنة 2018 حيث فاز المستقلون بنسب كبيرة من الأصوات فإننا سندرك مدى تصدع منظومة الحكم التي فقدت الكثير من مصداقيتها وشرعيتها.
حطّمت الهوامش منظومة أهملتها واحتقرتها وعمقت شعورها بالحيف والظلم الطبقي لسنين عديدة. وساعدتها في ذلك معركة كسر العظام التي دارت رحاها في قلب سياق الحكم |
إن انتخاب قيس سعيّد وهو القادم من خارج للـ"إستابليشمنت" كما تقول العبارة الانجليزية أي للمنظومة السياسية الحاكمة ومن خارج النخب السياسية التقليدية هو تجسيد وانعكاس لحالة الغضب الشعبي حيث سيكون بمثابة "كوكتيل المولوتوف" الذي يلقيه الناخبون الشباب على منظومة حكم مهترئة عملت على اقصائهم من المشاركة السياسية. ويعرف هؤلاء الشباب أنه لا مكان لهم في منظومة نخرها الفساد والمحسوبية والانتهازية في ظل انعدام فرص التشغيل وغياب العدالة الاجتماعية. لقد سئموا الايدولوجيات والدمغجة وخطابات اليمين واليسار في حين أنهم يتطلعون لوضع اجتماعي أفضل واقتصاد أقوى وفرص أكبر للتبادل التجاري والثقافي مع العالم.
هنا تكمن حنكة قيس سعيد الذي مازج في خطاباته بين الهوى المحافظ من خلال استحضار الاخلاق والمرجعية الإسلامية والهوى اليساري المهتم بالعدالة الاجتماعية والحوكمة الرشيدة. وقد ضمن له هذا المزيج الخطابي علاوة على تكوينه الجامعي الذي يسلحه بأدوات بيداغوجية على التوفيق بين كل ذلك في استقطاب شريحة من الشباب تتأرجح بين الهووي والسياسي والمعيشي. وهنا لا يظهر قيس سعيد فقط بمظهر "المثقف العضوي" الذي لم يخن مشاغل وتطلعات شعبه بل يمكن اعتباره "الاختراق الثوري" داخل النخبة أو على الأقل هو من يتحدث بصراحة دون حسابات معقدة باعتباره الحامل لطموح القطع مع منظومة فاسدة متعفنة والساعي الى أخلقة السياسة خارج أطرها الحزبية. وكان قيس سعيد قد اختار عبارة "الشعب يريد" شعارًا لحملته الانتخابية لتلخص تمسكه بأهداف ثورة جانفي 2011 التي قامت أساسًا ضد منظومة سياسية حكمت تونس لعقود عدّة وكان من نتائجها انتشار الفساد والفاسدين في البلاد.
باختصار لم يصوت الناس لبرامج انتخابية في حد ذاتها بل صوتوا لاستعادة البعض من الاعتبار والقيمة للسياسة. من سئم فساد المنظومة فقد صوت لشيء من الطهورية الأخلاقية (قيس سعيّد) ومن نسيته الدولة وتركته فريسة للفقر والإرهاب فقد صوت لشيء من الاهتمام (نبيل القروي). لقد حطّمت الهوامش منظومة أهملتها واحتقرتها وعمقت شعورها بالحيف والظلم الطبقي لسنين عديدة. وساعدتها في ذلك معركة كسر العظام التي دارت رحاها في قلب سياق الحكم (السيستام كما يقول البعض) وأدت الى تفجيره من الداخل. وفي خضم كل هذا تقف النهضة اليوم على بقايا حطام منظومة ساهمت هي بدورها في صناعتها واستمرارها كما طبعت علاقاتها معها من أجل ضمان بعض الكراسي على طاولة الغنيمة الحكومية.
في نهاية المطاف ورغم وجود العديد من المؤاخذات والانتقادات على ما يقدمه قيس سعيّد في مقاربته الملتبسة نوعا ما للحريات والحقوق الفردية والتي يعتبرها لا تمثل الآن حاجة تاريخية نابعة من صميم المجتمع فان ما يهمّ الان هو ألا تنجرّ الأطياف السياسية العقلانية لمحاولات ترذيل محاولته للوصول لقصر قرطاج وإنما وجب الالتفاف حوله لإنقاذ تونس من انحرافات مافيا المال الإعلام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.