لا أعلم كيف غرست وسائل التواصل الاجتماعي نوعًا من التهافتِ على نقل الأخبار لدى مُستخدميها، فما إن ينتشر خبرٌ -مهما كانت طبيعته-سواء صحَّ مصدره أو كذب حتّى تجد الجماهير يُسارعون إلى تناقله كأنّهم يسعون من خلال ذلك إلى السّبق (خاصّة إن تعلّق الأمر بالفضائح). ويكأنّهم يعملون تحت شعار "أنا مستعدٌّ دائمًا" يحرصون على ألا تتجاوزهم موجةٌ دون الرّكوب عليها، وتختلفُ أساليبُ النّقل لديهم، فقد يكون نقلاً حرفيًّا أو تحليليًّا بطريقة موضوعيّة، أو بإضافة مجموعة من "البهارات والتّوابل" التي تُضخّم الأخبار وتزيد تفاعلها إلى أن تصل إلى الذّروة (الترند)، حتّى وإن عبّرت عن أفكار وآراء غير مدروسة أو تحوّلت إلى مجرّد "شَخْصَنة"، فشكّل هذا التّهافت بيئة صالحة لنشر الشائعات وخلق فضائح والتّرويج لخطابات بأفكار مسمومة تناسب جيل الألفية، بغض النّظر عن مدى منطقيتها أو صحتها.
فلو أنّك تُحاول إحصاء عدد الأخبار المتناقلة خلال أسبوعٍ واحدٍ فقط، وعدد الوَسْم (الهاشتاج) المتداول على مختلف المنصّات، فإنّك ستعجب من هوْل الرّقم ولربّما ستكون محاولةً بائسةً منك لأنّك لن تتمكّن من إدراكها، وما أغلبها في الحقيقة إلاّ ردود أفعالٍ متهوّرة ولغوٌ لا طائل منه ولا نفع. إنّ هذا التّهافت على نقل الأخبار قد كوّن طبقة من المستعجلين المتسرّعين، شخصيّات ذوي مصداقيّة رثّة أو معدمة، لا يُلقون بالاً حين تناقلهم الخبر لمصدره ولا لطبيعته التي قد تخلق شرخًا أو صراعًا وبلبلة واسعة بين النّاس بسبب أمور قد تكون تافهة من الأساس كأنّها الغُثاء، دون الأخذ بعين الاعتبار ردود أفعال متابعيهم، تنوّعهم وتمايز ثقافاتهم ومذاهبهم وميولاتهم، وأيضًا اختلاف مستواهم الفكريّ وحتّى واقعهم الاجتماعيّ. كما أنّه خلق نوعًا من البلادة وتصلّب المشاعر؛ فمنذُ متى كنّا نتعامل مع فواجع الموت والفَقْد والمجازر بتلك السّرعة والبرودة؟ وكيف لمن رأى ما رأى أن يُشمّر أكمامه ويكتب نصًّا أدبيًّا يعزفُ فيه على وترِ اللغة ويُداعب الألفاظ أو أن يأتي بتحليلٍ سياسيّ أو أيّ شيءِ له أيّ معنى؟ وهل ردود أفعالنا في هذه الحالة طبيعيّة متّزنة؟ وهل كانت لتكون حقًّا جافّة بتلك الطريقة لو أنّنا شَهِدناها واقعًا؟
لا عيب إن أدرك المرؤ تسرّعه في تقديم رأيٍ أو في الدّفاع عن شخصٍ أو قضيّةٍ ما باستماتةٍ ثمّ لم يلبث أن يتراجعَ عن ذلك حين يستوضح ويتبيّن وينظر إلى الأمر نظرة النّاقدِ البصير، بل الخطأ استمراره وإصراره |
لا؛ فالنَّزْر اليسير من هذه النّوائبِ كافٍ ليشلّ تفكير المرء ويُصيبه في أوّل وهلةٍ بالخرس الجزئيّ بحيث يكون الصّمت أو الحوقلة، أو ربّما البكاء أو الصّراخ أو العزلة هو رد الفعل الطبيعي بل الأكثر صدقًا ونزاهة من الكلام الأدبيّ المنمّق أو التعليقات الجاهزة التي تُعجز الألباب. كان سيلزم المرء منّا وقت للملمة نفسه من ذلك الانهيار، وقتٌ لاستيعاب الأمر، للاستفاقة من الصّدمة، لتجميع الكلمات والعبارات التي سيهمس بها متلعثمًا كما يتلعثم المحتضر عند لفظ الشهادة، بعدها فقط تكون له القدرة على التّفاعل بصورةٍ أكثر منطقيّة وعقلانيّة مع الحدث! لكن هو ذا زمن "السيلفي" نلتقطها دون أن ترتعش لنا يدٌ وخلفنا تتناثر أرواحٌ كأوراق الخريف على الطّرقات، وأجسادٌ نازفة ومنازل هاوية، نمرُّ عليها دون أن يهتزّ لنا جفنٌ المهم أن يكون لنا السّبق في مشاركة الحدث. وزمن إطلاق الأحكام العَوْجاء دون التثبّت من سلامة الخبر، أو من اتّزان عقل المتحدّث؛ إن كان يُدرك فعلاً ما يقول، إن كان ملمًّا بحيثيّات الموضوع، أو أنّه تحت وقع صدمةٍ أو اكتئابٍ أو اضطرابٍ نفسيّ أو لربّما يدفعه حقد دفينٌ، وكلّها حالاتٌ تستدعي في مجملها الرّفق والتأنّي!
إنّ منصّات التواصل الاجتماعيّ وكلّ ما يُشَابهها لم تَعُدْ مجرّد وسيلة للنّشر والتّواصل فحسب، بل تعدّت ذلك لتكون أسلوبًا جديدًا للحياة وصياغة معاصرة للفكر، ولن أبالغ إن قلتُ أنّ كثيرًا من الخطابات العنقوديّة والفيديوهات والصور المصمّمة باحترافيّة وبأساليب تتناسب مع شرائح المجتمع المختلفة صارت طريقةً ناجعةً إلى حدّ بعيدٍ للتبشير بدينٍ جديدٍ أو أيديولوجيا جديدةٍ، يُجنَّد في سبيل الدّعاية لها عددٌ من الكُتّاب والفنانين والموسيقيّين وغيرهم، وأتذكّر هنا ما عُرف بـ "رجال الدقائق الأربعة" وهي لجنة مبتكرة للصّحفي الأمريكي "جورج كريل" جنّد فيها ما يُقارب 75 ألف متطوّع (مزيجًا ممّا ذكرت سابقًا)، بهدف حشد التأييد الشعبي اللازم لمشاركة أمريكا في الحرب العالمية الأولى. يقوم عمل كلّ فردٍ منهم على إلقاء خُطَب وطنيّة تثير الحماس في النفوس في الأماكن العامة لمدة أربع دقائق فقط؛ حتّى لا تتجاوز فترة الانتباه (Attention Span) التي قُدّرت آنذاك بأربع دقائق، وفعلاً نجحوا في ذلك نجاحًا باهرًا. وهؤلاء أشبه بجيوش المنصّات الإلكترونية في وقتنا الحاضر.
لذا فهي تقتضي الكثير من التأنّي والاتّزان في التّعامل مع كلّ ما يُطرح ويُقدّم للمتابع؛ حتّى لا يكون هذا المتابع مجرّد رقمٍ، مجرّد مستهلِكٍ للأخبار، ناقلٍ مُستغفَلٍ، متّبعٍ للقطيع دون إعمال عقلٍ ولا تمحيص معلومة. كما تستوجب اليقظة والوعي في التعامل معها خوفًا من {أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، أو أن تتشرّب العقول أفكارًا ومبادئ مغلوطة، فيكون الاستفهام والاستفسار واجبًا قبل التهكّم والتهجّم، قبل النّقل والتشهير، قبل أخذ الأمور كمسلّماتٍ، لتحرير العقول من منطق إعادة نشر الأفكار المُزجاة واتخاذ النّاس ملائكة ورُسَلاً. ويكون النّصح والتوجيه بالحُسنى والحكمة والتزام آداب النّقاش أقرب للتقوى لا السبّ والتّجريح والسخرية، وعذر النّاس والرّفق بهم أولى وأوجب من تصيّد الأخطاء والتربّص لهم عند كلّ حرفٍ وبعد كلّ زللٍ. ولا عيب إن أدرك المرؤ تسرّعه في تقديم رأيٍ أو في الدّفاع عن شخصٍ أو قضيّةٍ ما باستماتةٍ ثمّ لم يلبث أن يتراجعَ عن ذلك حين يستوضح ويتبيّن وينظر إلى الأمر نظرة النّاقدِ البصير، بل الخطأ استمراره وإصراره.
فاُنظر مثلاً فيما يُروَى عن القاضي عبيد الله بن الحسن العنبري -وقد كان من فقهاء أهل البَصرة وعلمائها- حين سُئل في مسألة فأخطأ بها، لا هو ثار وغلّف الكبرياء لُبَّه عن إعادة النّظر في رأيه ولا حتّى أخذ الرّأي السّديد مباشرة دون تمحيص، بل أطرق ساعة يُفكّر ويُسدّد ويتبيّن، ثم رفع رأسه فقال مقولته الشّهيرة: "إذًا أرْجِع وأنا صاغرٌ، لَأَنْ أكون ذَنَبًا في الحقّ، أحبّ إليّ من أن أكون رأسًا في الباطِل". ثمّ كيف كانت ردّة السّائل هُنا -الذي هو في الأساس تلميذه-؟ لم يسخر منه ولا استصغره واحتقر عِلمه بل قال: "أصلحكَ الله" ثمّ صوّبه. وهو ذا الأدب الموجب للرّشاد، فلا تُعن الشيطان على من أخطأ أو أذنب فذاك فعلٌ سهلٌ هيّنٌ، بل النُّبل أن تشدّ بيد إخوانك، تُقيم اعوجاجهم، تستر عجزهم وتوقظهم من غفلتهم، دون الطّعن في نيّاتهم ولا التعرّض لهم.
ولا تنشر ولك الأجر، كلّ أمرٍ سلبيّ، كلّ كلامٍ أو معلومة أو خبرٍ غير موثوق المصدر، كلّ فضيحةٍ أو عثرة لسانٍ أطلقت دون تمحيصٍ، كلّ قصّة مكذوبة منمّقة، كلّ مقطع فيديو مُهينٍ مبتور الأصل، كلّ كلمةٍ عنصريّة ضدّ شعبٍ أو فتوى بدرت من غير متخصّص؛ حتّى لا تكتسب التّفاهات قوّتها. لا تنشر ولك الأجر؛ حتّى لا تقع في مزالق التّعميم والاتّهام بسبب سوء ظنّ أو شائعةٍ تداولها النّاس أو تأويلٍ للقول أو تحريفٍ للكَلِم في غير موضعه حتّى يَثبت. ولا تخفْ لن يشكّك أحدٌ في "عروبتك" أو "إسلاميتك" أو حتّى "نزاهتك الثوريّة" أو "الإنسانيّة" إن تركتَ مناسبة أو حدثًا دون أن تقف عنده أو أن تسجّل فيه حضورك العلنيّ. ولربّما لو تمعّن كلّ منّا جيّدًا في تفاصيل حياته لوجدنا أنّنا خاضعون لتأثير حُمَّى تناقل الأخبار وتشرّب الخطابات المسمومة والشائعات الساذجة بطريقةٍ ما -ممّا قد ذكرتُ آنفًا-أو أنّنا مشاركون فيها بكلّ شغفٍ وحماسٍ تحت مسمّياتٍ مختلفة: "توعية"، "دعوة" أو ربّما "تنوير".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.