إن عيون المسلمين نامت تعويلا علينا" كلمة نطق بها الإمام أبو يوسف – صاحب الإمام أبي حنيفة -رضى الله عنهما لما اشتد عليه المرض وأبَى إلا أن يواصل الدرس، فأراد أحد طلاَّبه أن يخفف عنه، بيد أنه لقننا درسا بليغا وهو: أنَّ أصحاب المهام والمسؤوليات الجسيمة عليهم أن يدركوا أن مَن وراءهم يعقدون عليهم آمالا كبيرة. ومقتضى ذلك: أن يبذلوا من أنفسهم ووقتهم ما استطاعوا، ولا يخلُدون إلى فراشهم إلا وقد بلغوا عذرهم عند الله سعيا وكَدَّا وعملا متواصلا.
لقد ترددتُ في كتابة هذه السطور، ذلك لأن تقصيرنا ظاهر، وفضل الله علينا زاخر، لكنني قلت: لعلها تذكرة لي قبل غيري، ورب مُبَلغ أوعى من سامع.
وأتمثل في ذلك قول الشاعر:
أَسِيرِ خَلْفَ رِكَبِ القَومِ ذَا عَرَجٍ مُؤَمَّلاً جَبَرَ مَا لاقَيْتُ مِنْ عِوَجِ
فَإِنَّ لَحِقْتُ بِهِمْ مِنْ بَعدِ مَا سَبَقُوا فَكَمْ لِرَب السَّمَا فِي النَّاسِ مِنْ فَرجِ
وَإِنْ ظَلَلْتُ بقَفْرِ الأرضِ مُنْقَطِعًا فَمَا عَلَى أعَرَجٍ فِي ذَاكَ مِنْ حَرَج
لمَّا بايع الصحابة الكرام الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية كان سؤالهم: فما لنا إن وفينا؟ قال: الجنة، وكأنها كلمة السر التي تفتح مكنون الإنسان وتشعل لهيب العقل والقلب.
بايع الصحابة الكرام وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فقاموا ولم يرقدوا، وسهرت أعينهم في سبيل الله لينام غيرهم في سلام، وصبروا وصابروا ورابطوا وهاجروا وضحوا ونشروا العلم النافع، وأناروا العقول بأضواء الوحي، وأقاموا العدل، وأنصفوا كل مظلوم، وأقاموا الوزن بالقسط، وكانوا على الأرض سادة وقلوبهم موصولة بالملأ الأعلى، غرسوا الأمل في نفوس البشر وردوا للإنسان كرامته وإنسانيته.
يتملكنا العجب والدهشة عندما نقرأ سِيَر الصحابة والعلماء والدعاة والقادة والمصلحين عبر تاريخ أمتنا الحافل، ونقف متسائلين عن سر هذا العطاء النادر |
كلُّ ذلك ولم يكن في خاطرهم إلا رضوان الله والجنة، وكان رسول الله صلى الله عليه لا يفتأ يصل قلوبهم بها كلَّما حانت مناسبة، ولمَّا جاءت غنائم من البحرين وجعل الصحابة يعجبون من نعومة المناديل فقال ليصرف قلوبهم لما عند الله في الآخرة: "لمناديل سعد بن عبادة ألين من هذه في الجنة"، لم يكن الحديث عن الجنة تخديرا للمشاعر، أو تعطيلا لقانون الأسباب، بل باعثا للهمم، ومحركا للأعمال، وحافزا لكل معروف وإحسان.
يتملكنا العجب والدهشة عندما نقرأ سِيَر الصحابة والعلماء والدعاة والقادة والمصلحين عبر تاريخ أمتنا الحافل، ونقف متسائلين عن سر هذا العطاء النادر، والتضحيات الكبيرة والهمم الرفيعة والتعالي عن سفاسف الأمور، ومواصلة الليل بالنهار في نشر العلم وبذر الخير وإقامة العمران وبناء الأوطان وصناعة أمة تدعو إلى الخير، فنجد أن السر يكمن في الشعور بالمسؤولية والمهام العظام الملقاة على كاهلهم، هذا الشعور هو الذي قَلَب موازين حياتهم، فجعل مصعب بن عمير يترك ماله وزينة الدنيا رجاء ما عند الله، وهو الذي قاد سلمان الفارسي عبر رحلة طويلة مريرة حتى اهتدى، وهو الذي جعل أم حرام بنت ملحان ترنو لركوب البحر مع الصحابة حينما بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فسألتْه الدعاء بأن تكون منهم.
علموا ورأوه صلى الله عليه وسلم- قد هجر الفراش وخاصم الراحة وقال للسيدة خديجة: " مضى عهد النوم يا خديجة " ومضى بين الناس بدعوة الحق لا ترقأ له عين، ولا يهدأ له خاطر حتى كاد يهلك أسفا على من أعرض وتولى، وقال له ربه: "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) سورة الكهف
وعلى طريقهم انبعث أحد أحفاد الفاروق ليحي آثار الأولين من الراشدين، إنه خامس الخلفاء عمر بن عبد العزيز الذي حقق ما يشبه المعجزة، ففي سنتين وبضعة أشهر أعاد الخلافة بعد انحرافٍ سيرتها الأولى على نهج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وكان سر ذلك هو الهمّ الذي سكن قلبه يقول رضى الله عنه: " كان في نفسي شي من حب الإمارة، فلما نلتها تاقت نفسي إلى الخلافة، فما نلتها تاقت نفسي إلى الجنة" فأسهر ليله وأظمأ نهاره وأدرك في قليل عمره ما لا يدركه غيره في كثيره، وتلك بركة الإخلاص والرغبة في نفع الأمة ومواصلة الجهد إلى بلوغ الغاية.
لا ينقضي إعجابي من جهود الداعية الكبير والرجل الأمة د عبد الرحمن السميط – رحمه الله – الذي نذر عمره وسخر حياته وحرم نفسه من متع الحياة وطيبات الرزق هو وأهله من أجل الدعوة في قارة أفريقيا، وقصته طويلة وبها الدروس الكثيرة، كنت أتساءل ما الذي يجعله يفارق الفراش اللين، والحياة المُريحة ثم يذهب لأفريقيا ليواجه الأخطار ويشارك أهلها المعاناة؟ فيرتد إلي الجواب: طلبا لمرضاة الله وإحساسا بمعاناة هذه القارة من الجهل والفقر والمرض.
هنيئا لكل عالم وداعية شغل فكره وأكبَّ على الكتب والمراجع يُنَقِّب عن حل مسألةٍ، أو تدقيق حكمٍ، أو النظر في قضية من قضايا المسلمين |
لقد سمع الرجل وهو طالب في الجامعة أنَّ أفريقيا تواجه تحديات كبيرة، حيث تنتشر المجاعات والأمراض والفقر وغير ذلك من التحديات، فوقع في قلبه أن يسخر إمكاناته العلمية وكل ما يستطيع من أجل أفريقيا، وقد أجرى الله على يديه الخير العظيم، ومن يتابع نشاطه ومسيرته ويستمع إليه يرى أننا أمام رجل من طراز رباني فريد في زماننا، وسيرته عظيمة تستحق أن تُفرد بالتأليف وتقدم للأجيال كمنوذج عظيم في إيمانه وفهمه وتضحياته وعطائه الواسع وتأثيره البالغ الذي نتج عنه إحياء ملايين الأنفس والقلوب والأرواح بنور الوحي والعلم.
لقد بشَّر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم العيون الساهرة بالجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفَّت عن محارم الله". رواه الطبراني، وحسَّنه الألباني
إن كثيرا منا يعرف قصة الإمام الشافعي حينما صلى الفجر بوضوء العشاء، إنه انشغال الفكر بهموم المسلمين، لقد بات ليلته مشغولا بمسائل عديدة تهم الناس. فإلى جميع هؤلاء أوجه رسالتي – وأنا أقلُّ منهم جميعا.
هنيئا لكل عالم وداعية شغل فكره وأكبَّ على الكتب والمراجع يُنَقِّب عن حل مسألةٍ، أو تدقيق حكمٍ، أو النظر في قضية من قضايا المسلمين.
أنتم بمنزلة المرابطبين في سبيل الله، وأعظم مهمة تقومون بها هى المحافظة على هوية أبنائكم، وكأني بكم تتمثلون وصية سيدنا إبراهيم ويعقوب عليهما السلام:" وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) سورة البقرة، فاغرسوا في قلوبهم محبة الله ورسوله ودينه وأمتهم، ومحبة الخير للناس، وتعهدوا غرسكم بماء الماء الإيمان، حتى يصير كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
تذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث معلما للبشرية وهاديا للإنسانية، فترسموا طريقه واتبعوا سبيله واعلموا أن خير عمل هو المساهمة في بناء هذه الأجيال وهو خير ما تقدمونه للأمة وللمجتمع، فطوبى لمعلم أو معلمة سهر الليالي إعدادا لدرس أو محاضرة، أو نشاط هادف.
لينا أن ندرك أن أعداء الحق والعدل والحرية يعملون ولا يَكِلُّون، ويبذلون في دعم باطلهم ولا يبخلون، ويمكرون الليل والنهار ولا يَفْتُرون |
نحن أمام تحديات كبيرة وقد خوَّلكم الله أمانة عظيمة فهنيئا لكم أجر المجاهدين والعاملين لدينه والحافظين لدعوته والقائمين على خدمة المسلمين، شبابنا هم الأمل وعليكم أن تضعونهم بين أعينكم وهم ينتظرون منكم الكثير والكثير. فلا تغفلوا عن طاقتهم وقدراتهم فهم الكنز الحقيقي، فاعملوا على توريث المسؤولية بعلم وحكمة وعزم.
إنني أغْبِط مَن يقضون الليالي الطوال والأيام ويقطعون المسافات تدبيرا للمال اللازم لبناء مسجد أو مدرسة لأبناء المسلمين، عرفتُ رجلا بالمركز الإسلامي بمدينة شتوتجارت أول قدومي لألمانيا "الحاج عبد القادر" مغربي المولد تجاوز الخامسة والسبعين كان الرجل – رحمه الله – آيةً في حب المسجد والتعلق به والتفاني في خدمته، علمت بعد وفاته أنه كان يتبرع بنصف راتبه شهريا للمسجد، ولم يعلم أحد بذلك. رغم رقة حاله.
وبمدينة فرانكفورت رأيت امرأتين تقومان بتنظيف المسجد احتسابا لله تعالى، وعلمت بعد ذلك أنهما كانا يمشيان مسافة ثلاثة كيلومتر ذهابا وإيابا ولا ينتظران عوضا إلا ما عند الله، وما عنده خير للأبرار، هؤلاء جميعا هم حُرّاس الإيمان.
أيها الأحبة، ويا كل غيور على دينه وأمته، علينا أن ندرك أن أعداء الحق والعدل والحرية يعملون ولا يَكِلُّون، ويبذلون في دعم باطلهم ولا يبخلون، ويمكرون الليل والنهار ولا يَفْتُرون، فعلينا أن نخاصم الكسل، ونهجر التراخي وأسباب الفشل، وإنَّ الله ليتعبدنا بالسعي والعمل، وهو معنا ولن يترنا أعمالنا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.