شعار قسم مدونات

عندما غنت فيروز للانتظار..

blogs فيروز

الانتظار هذا الفعل الذي يحمل في عمقه امتدادًا لصبرنا، رغم استنزافه لأرواحنا، ترانا معلَّقين به من قلوبنا، لا نملك خيارًا آخر، ففي كلّ مرةٍ نفقد فيها حبيبًا، أو صديقًا قريبًا، أو نستشعر الحنين للغائبين يصبح الانتظار الفعل الوحيد المسيطر على وقتنا، وحواسنا، وجوارحنا، ويصير الانتظار طقسًا مقدّسًا يُضاف لقائمة الطقوس التي نمارسها إثر غيابهم وشوقنا، فترانا نُردِّد بيننا وبين أنفسنا ما ردَّدته فيروز من قبل في أغنية "سألتك حبيبي":

موعدنا بكرا وشو تأخر بكرا..

قولك مش جاي حبيبي..

عم شوفك بالساعه..

بتكّات الساعه..

من المدى جاي حبيبي..!

  

فننتظر اللقاء، ننتظر الحضور، ننتظر العودة، في اللحظة القادمة، في الساعة المقبلة، في اليوم التالي، بموعد أو بدونه نظلّ ننتظر، فنحن ننتظر على أمل الشوق، على أمل المفاجأة، على أمل المباغتة، بلا كللٍ أم مللٍ، نُغذّي انتظارنا باللهفة للآتي والترقُّب.

  

وإنْ كان يقتلنا انتظار اللقاء، يقتلنا قدومه المتأخر، حتى لنظنّ أنَّه لن يأتِ، وأنَّه سيتركنا معلَّقين على عقارب الساعة، فشلنا في زجر أنفسنا، فلا نكفُّ عنه، ولا نَحِيدُ، ولا نتوب، إنَّه عذابنا الأسمى، وأملنا الأليم، وحيدنا هو لا نملك خيارًا غيره، واهٍ علينا حين تتجلّى لنا هيئة الحبيب في كلّ المحسوسات والملموسات المحيطة بنا، فتارةً نلمحه في الساعة وعقاربها، وأخرى نلمحه بين الدقائق والثواني، ومرةً نراه قادمًا نحونا كأملٍ مقبلٍ من آخر الطريق، وأحيانًا نشعر به غيمةً تُجانِبنا، تظلِّلنا، وتروي ظمأنا آخر الأمر بلقياه البهيج، فيا لصبرنا وطول الأمل!!

  

في كلّ مرةٍ يطول فيها انتظارنا ننظر لأنفسنا، نشفق عليها، ويشقُّ علينا حالها، فالملامح ذابلةٌ، والنور باهتٌ، والقلوب وَجِلةٌ مُتَرقِّبةٌ، فنسأل أرواحنا: أيُّ صبر هذا الذي نملكه لنفرغه على الانتظار واحتمالاته القاتلة؟! بل وأيُّ أرقٍ هذا الذي يلفُّنا ونرضى أنْ يتلبَّسنا في سبيل هذا الانتظار؟! إلى أيّ حد سيطول انتظارنا وينهشنا الشوق للقادم؟!

 

حالنا في الانتظار ليس بأفضل من حال فيروز حين غنت "وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان":

يا ناطرين التلج ما عاد بدكن ترجعوا

صرخ عليهن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا

 

فالانتظار عند فيروز وعندنا سواءٌ إنَّه يعني أنْ تستجدي الإجابة مِن أيٍّ كان، ويعني أنْ تفتح باب الأسئلة على مصراعيه، بعدما أتعبكَ زحامها في نفسك، الانتظار يعني أنْ تستدعي جميع الموجودات لتُسانِدكَ في انتظاركَ، وتآزر روحكَ المُتهالِةة، لتستدعي معكَ هذا الحبيب الغائب، هذا الذي أفنيتَ نفسكَ ووقتكَ لأجله، هذا الذي بذلتَ روحكَ في سبيله، هذا الذي ذكرته حين نسيتَ نفسكَ، هذا الحبيب الذي امتلئت حياتكَ بصورته بصوته بضحكاته ومشاكساته، فمتى يرجع؟! متى يرجع وينقذكَ من فكيّ الحيرة والاسئلة؟! لم لا يرجع وقد آن أوان عودته؟! ترى أيُّ فجوة زمانية ابتلعته وحالت بينكَ وبينه؟!

 

علينا الاعتراف، علينا الاعتراف أنَّ الأسئلة تُعذِبنا، وتُرهِقنا، علينا الاعتراف أنَّها تستنزفنا، وتُسرِف في ذلك كَوْنُ إجاباتها لا تُفضِي لشيءٍ سوى المجهول، إنَّها تقودنا للحيرة، تؤرِّقنا الأسئلة باستفهامها، واستنكارها، وفضولها كما أرَّقت السيدة فيروز من قبل، فلا هي وجدت لها جوابًا ولا نحن كفَفْنا قلوبنا عن السؤال واستجداء الإجابات والبحث عنها.

 

الانتظار في آخر الأمر يعني أنْ تُروِّض نفسكَ على الصبر، يعني أنْ تُتقِن عدَّ الساعات التي تمضيها مُتَرقِبًا مُعلِّقًا عينيكَ نَحْوَ المدى، يعني أنْ تتفنَّن في إحصاء الاحتمالات وترتيبها لفعلٍ يحتمل من المفاجآت أكثر ممّا يحتمل من الواقعية والمنطق، فحاذِرْ أنْ تكلَّ أو تملَّ إذا أصابكَ ما أصاب فيروز حين غنت أديش كان في ناس:

نطرت مواعيد الأرض وما حدا نطرني..

 

يُعذِّنا الانتظار، يُرهِقنا، يُؤرِّقنا، يُشاطِرنا الليل بظلمته وهدوئه، يُشارِكنا فنجان قهوتنا والاغنيات، يَستَبِيحُ وقتنا؛ فنستَلِذّه ونستَعذِبه، نستهوي عذاباته التي تُغرِقنا في احتمالات الضياع مرةً وفي احتمالات الأمل مرةً أخرى، فنسقط في هُوَّة الشكّ، وتآكل الروح، إلّا أنَّنا مهما طال انتظارنا، وامتدّت عذاباتنا بسببه لا نجد أمامنا خيارًا سواه، فأرواحنا لِمَن غابوا فداء، وأوقاتنا مبذولةٌ في سبيل هذا الأرق اللذيذ!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.