من منا لم يتجرع مرارة الخِذلان في كأس مكسورة الحواف؟ من منا لم تُهده أناملُ الحياة خيبة موجعة؟ الكلّ قد أخذ نصيبهُ من هذا وذاك، ولكن بنسب مُتفاوتة… وإن لم تكن قد وقعت في شرك غصّة هذا الشُّعور، فأسأل الله أن يجنّبك ومن تحب ذلك لما قد يخلّفه من وجع خُصّبَ بنطفة من خِذلان في خلايا الذّاكرة، إنّ الخِذلان في وقعِه على النّفس أقسى من أيّ شيء آخر، لأنّه نابع من مدى محبتِنَا وثقَتنا بالطّرفِ الآخر، فكلّما كان الشّخص قريبا كلّما كان الألم والخيبة أكبر، وكلّما كان وقعُه على النّفس أعظم، حين تأمل وترتجي منهم فيصفعونك بخيبة تلو الخيبة، حين تتعاملُ معهم بكلّ حب، وتعيش معهم بصدق، تشاركهم أحزانك وأفراحك، ونفس الشيّء تفعل إن تعلّق الأمر بهم، تتشاركون التّفاصيل الصغيرة كأوّل خطوة لك في الحياة، أول حرف، أوّل دمعة وأوّل نجاح… والذّكريات حلوها ومرّها. وفي أوّل اختبار تنتهي كل تلك العلاقة، فيظهر لك زيفُها، وترتطمُ أنت بالواقع، واقع مرير كان صوب عينيك منذ البداية لكنّك كُنت غافلا فقرّرت بذلك أن لا تبصره.
كان خذلانهم كفيلا بأن يُخبرك أنّ كل اللحظات الجميلة التي جمعتك بهم ماهي إلاّ فقاعات صابون رغم أنك تشبثت بها بكلتا يديك وبكل قوة إلا أنها تطايرت إلى أماكن لا يحقّ لك الوصُول لها، أو أنّها تلاشت قبل وصُولك، أو مرت رياح الدنيا وسرقتها وربما وصَلت إلى مكان أبعد من أن تصل إليه معهم، علاقة بتاريخ إنتهاء الصلاحيّة! خِذلان قد أحرق مِساحات قلبك البيضاء وانتهى، فصَارت رمادا لا يُكتب ولا يُشكى، بل هو في مواسِم الذّكريات يُبكى. أتعلمُ شيئا يا صديقي إنّنا وبالرّغم من كلّ الألم الذي عشناه، إلاّ أنّنا لا نتوقّفُ عن منحِ أولئك الذين خذلونا ذات حزن أو ذات فرح فرصا جديدة، وهم بدورهم لا يتوقّفون عن خذلنا، لكن بعد كلّ خِذلان يتملّصُ القلبُ منهم شيئا فشيئا إلى أن يصبحوا غرباء كما لم يكونوا يوما.
الحياة لا تنتهي مع خيبة أمل يمكن أن نعيشَها، يكفي أن ندعس عليها بأقصى نضج نملكه ونضحك على خيباتنا، بل ونخيّب ظن من خذلونا فينا فلا شيء أقوى من قلوب تجرّعت مرارة الخيبات |
هُناك من يرى أنّ سبيل النّجاة من كلّ هذا هو أن تتغيّر مع من خذلوك، خاصّة وإن وجّهوا لك الصّفعة بدل المرّة عشرا، وأن تتوقف عن كونك شخصا نبيلا، فشخصٌ غير قادرٍ على أن يفهم كرمك معه لا يمكن إلا أن يكون شخصا لئيما وأقل بكثير من أن يصل إلى ما وصلتَ أنت إليه، إلى عُمقِ فهمِك للأمور ونظرتِك لها، نظرة أبعد من أن تدركها عيناه، أما أنا فأقول لك صوّب هدفكَ دائما إلى ما وراء هذه الحياة وخُذ بقوله تعالى:" فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ". لأنّ تلك الشوكة التي تريد وضعَها في حلقهم ستظلُّ عالقةً في حَلقك أيضا، وستعكّر أيّامك كلّما عصفتِ رياح الذّكريات… كُن باردا تكن بخير، فالخذلان سيجعلك قويا لدرجة أنّك لن ترفع درجة توقّعاتك بأحد، ليست سوداويّة ولكن استغناء عن العباد بربّ العباد.
والخِذلان أيضا أن تخذل نفسك، لأنّك تركتها تركضُ خلف شهواتها، فأهملتها حتّى انطفأت شعلة الإيمان فيها.. أو لأنّك رسمتَ أحلاما لم تسع لها كما يجب… إن خذلان الذّات يا صديقي يدمّر جزءا من الرّوحِ لا يحييه أحد، هي أحداث كثيرة قد سرقت منك ابتسامتك وسرقت أناس كُثر وسرقت بطريقها دهشتك، ومع ذلك مازلت تقف عند كلّ بداية جديدة تنادي الله بكلّ ذهولك وفطرتك، لأنّه ما يزال بداخلك ركن منزو لم يطرقه خذلان البشر بعد، لم تصفعه الحياة، لم تطله لعنة الألم ولا دسّ الكره فيه سواده، في ذاك الرّكن ستجد نفسك، تلك الـ "أنا" التي انسلّت عن الحياة ذات يوم، لتعود إليها كلما أوجعتك خطوات الغرباء بثنايا روحك وبللها غيث الخذلان. ذاكَ الرّكن منكَ عليكَ أن تُسعفَه ذاتك قبل فوات، وأن تعض بنواجذك على كل أمنياتك مهمَا بدت صعوبتها وأن تصارع الدنيا لتنعِش أحلامك مهما احتضَرت بهذا الواقع البائس، واعلم أن لا أحد قادرٌ على هزيمتِك فعلا سِوى نفسك.. لا تخَف مازالت هُناك فرصَة ما دُمت على قيد الحياة.
إذا كان الفقد يَلفِت انتِباهَنا لبعض الأشياء التي كنّا نَغفَل عنها أحيانا، وتفاصيل صغيرة أهملناها، ونقدّر ونستحضر أموراً كنّا نجهلُها أو لا نُعيرُها اهتماماً، فإن خيبة الأمل ترسّخ فينا مبادئ الحياة العميقة ودورها وعظمتها وضرورتها، تعلّمنا قوة الاحتمال واتقان الصبر واحتراف الانتظار، نفهم معنى الرجوع إلى الله ونستشعره، نمارس الرضى بالمعنى الحقيقي ونتقبّل أمورا كنّا لا نستسيغها ونعزف عن التّذمر، كما أنّنا نُعيد ضبط وصياغة العديد من الأمور، مشاعرنا وتعابيرنا ومعاني الحياة المختلفة. إنا الخذلان و الخيبات قد تكون حوادث لم نشأ أن نعيشها، ولكن الأكيد أنّها مرّت كما شاء الخالق والتفكير الزائد فيها مَفسدة لحياتنا، يكفي أن نطردها بكل ما أوتيَّت قلوبنا من قوة ولا نعيش متحسّرين على أيّام مَضَت ولن تعود، وأنّها لا تتعدّى كونَها دروس تعلّمْنا منها ما يجب أن نتعلّمه، ولا خيبات نحملُها على عاتق حاضرنا نتوشّحها رداءً أسود عند كلّ ألما .
في النّهاية، حاول ألا تُبالغَ في أيّ شيء فخلف كلّ مبالغة صَفعةُ خِذلان، وانصر كلّ من خذلوك في المَواضع التي ظنّوا أنّك ستخذلهم بها، فقط لتخبرهم بأنّهم خَذلوا أنفسَهم بأنفسِهم حينمَا خذلوك، ولا خذلان أسوء من خذلان العبد لربّه حينما يتمَادى عليه بعِصيانه، مع أنّه عبد فقير لرب غني عنه، وخذلان المرء لنفسه ولحُلمه ولطُموحِه ولكل جَميل به وما عدَا ذلك دروس في الحياة ليس أكثر.
لا تعطي الأشياء أكبر من حجمها وتوقّف عن كونَك مخذولاً، فالشجعان فقط من يخوضون معارك الحياة، ومساكين من لا يملكون حكايات موجعة، فبِقدرِ ما حَمِلتْه من ألم بقدر ما يَتأتّى منها نضجٌ كبير، فالحياة لا تنتهي مع خيبة أمل يمكن أن نعيشَها، يكفي أن ندعس عليها بأقصى نضج نملكه ونضحك على خيباتنا، بل ونخيّب ظن من خذلونا فينا فلا شيء أقوى من قلوب تجرّعت مرارة الخيبات لأنّها تعلّقت بربّها فطوبى لها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.