شعار قسم مدونات

تونس.. هل تقود العرب إلى الديمقراطية والحكم المدني؟

blogs تونس

لا تزال المنطقة العربية اليوم تعيش صخب ما أحدثته ثورات الربيع العربي من صراع فكري وأيديولوجي منفلتٍ يفتقر للتجربة والخبرة الكافية ويشوبه كثير من التخبّط والعشوائية سواء على مستوى الأنظمة أو الشعوب التي باتت بدورها منقسمة في مواقفها حيال ما جرى ويجري من أحداث.
وفي مراجعة تاريخية لأحداث مشابهة نجد أن ما تمرّ به المنطقة العربية اليوم من صراع محموم هو أمر طبيعي في عملية الانتقال من الحكومات الوراثية المطلقة إلى الحكومات الديمقراطية الدستورية؛ فالأنظمة الشمولية المستهدَفة بدعواتِ التغيير لن تستلم بسهولة لمطالب التغيير بل ستستخدم كلّ ما لديها من طاقاتٍ وإمكانيات لمواجهة هذا التغيير ومطالب التحول من الشكل التقليدي لحكم الفرد إلى الشكل الديمقراطي المسؤول أمام الدستور والقانون.

وعلى سبيل المثال وعند النظر إلى الثورة الفرنسية بصفتها تجربة مشابهة لما يشهده العالم العربي نلاحظ أن الثورة الفرنسية وأنصارها لاقوا كثيرا من العراقيل والعنت و"الفشل المرحلي" و"الهزيمة التمهيدية" وتعثرت التجربة الثورية بشكل كبير، وقد استمر الصراع بين أتباع الدول المستبدة والحكومات الملكية من جهة وأنصار الحكومة المدنية من جهة أخرى قرنا من الزمن، وولّد هذا الصراع حالاتٍ من المواجهة الإعلامية والتخريبية قادت إلى احتراب عسكري بين التيارين وانتهت بهزيمة تيار الثورة وعودة الحكم المستبد أشرس مما كان قبل الثورة.

التجربة التونسية وانتكاسة الثورات العربية
فشل التجربة الديمقراطية في مصر يعود جانب كبير منه إلى عدم امتلاك الإخوان المسلمين الخبرة الكافية في الحكم وعالم السياسة، وذلك ليس تقليلا من شأنهم أو اتهاما لهم بل هو واقع تحدّده الأحداث وحقيقة يعترف بها الإسلاميون أنفسهم

وفي العودة إلى نتائج الثورات العربية نجد أنها لاقت مصير ما لاقته الثورة الفرنسية وعادت الأنظمة الحاكمة ببطش مضاعف وقمع أكبر وفوضى شاملة كما هو الحال في مصر وليبيا واليمن؛ حيث غرقت هذه الدول في دوامة من الفوضى والقمع والتمزق المجتمعي. لكن ورغم هذا الفشل الذي يقرّه الجميع إلا أنه لا يمكن اعتبار التجربة الثورية العربية تجربةً فاشلة بالجملة حيث يمكننا استثناء الحالة التونسية من دائرة الثورات العربية فقد حقّقت نجاحا ملموسا في طريق الديمقراطية والحكم المدني الدستوري الذي يحدّد أداء الحكومة ويقيّد صلاحيات السلطة كما يحدّد مهام المواطن ويبيّن ما له وما عليه في ظلّ الدستور المدني.

وستشهد تونس في الأسابيع القادمة أصعب اختبار لها بعد سنوات من الهدوء السياسي الهش والديمقراطية القلقة؛ حيث من المقرر إجراء الانتخابات الرئاسية في 15 سبتمبر/أيلول المقبل. ويتوقع مراقبون للمشهد السياسي في تونس أن تكون هذه الانتخابات نقطة انتقال في التجربة الديمقراطية التونسية إذا تحققت بنجاح ونجت من وباء الثورات المضادة؛ حيث لا تزال أنظمة الاستبداد العربي تتربص شرا بالمشهد السياسي التونسي وتعمل على إفشال مشروع الديمقراطية الذي نادت به الثورات العربية وجماهيرها.

ورغم ما تعانيه أنظمة الثورات المضادة من إرهاق مستمرو تكاليف باهظة جراء مناهضتها للثورات ومعاداتها للشعوب وما تترتب على ذلك من تردٍ في السمعة الدولية والمكانة الإقليمية إلا أنها لا تزال واقفة على أقدامها ومصرة على سياساتها ومستعدة للذهاب إلى نقاط أبعد كالخيار العسكري كما يبين لنا الواقع القائم في ليبيا واليمن، وبالتالي فإن على التونسيين علمانيين وإسلاميين وعسكريين أوفياء لوطنهم التعاملَ بذكاءٍ أوسع وإخلاص أكمل لسد أية ثغرة يمكن من خلالها أن تنفذ أيادي الثورات المضادة بقيادة الإمارات والسعودية ومصر لإفشال التجربة التونسية والقضاء على مشروع الديمقراطية في العالم العربي.

مؤشرات إيجابية للتجربة التونسية

ومع هذا القلق المطلوب واللازم لدى التونسيين في هذه المرحلة فإن هناك بعض المؤشرات الإيجابية التي يمكن اعتبارها بوارق أمل لنجاح التجربة التونسية والمانع لسقوطها في فخ الثورات المضادة، وهذه المؤشرات هي:

أولا: وطنية العلمانيين؛ تعتبر الأحزاب العلمانية متمثلة بحزب نداء تونس والقوى اليسارية والليبرالية كحزب الجبهة الشعبية اليساري وأفاق تونس والحزب الوطني الحر وغيرهم من اللاعبين الأساسيين في المشهد السياسي لتونس، وقد أظهروا حرصا محمودا على نجاح تجربتهم السياسية مقارنة مع زملائهم في مصر وغيرها الذين ارتضوا حكم الجنرالات والعساكر ورفضوا الوجود الديمقراطي لخصومهم على كرسي الحكم، وبذلك خلقوا لخصومهم السياسيين واقعا أليما ومعاناة مستمرة، كما حرموا أنفسهم من المشاركة الحقيقية في الحكم وصناعة القرار السياسي. وقد يكون ما آل إليه واقع العلمانيين في مصر وإقصائهم من المشهد السياسي هناك وتفرّد العسكريين في السلطة عاملا من عوامل اعتبار علمانيي تونس والتوصل إلى قناعة مفادها أفضلية التعايش مع الإسلاميين وترجيحها على التحالف مع العسكريين الذين في الغالب لا يؤمنون بأي شكل من أشكال الديمقراطية الحقيقة سواء تلك التي تأتي بإسلاميين أو التي تجلب العلمانيين إلى سدة الحكم.

ثانيا: نضج الإسلاميين؛ إن فشل التجربة الديمقراطية في مصر يعود جانب كبير منه إلى عدم امتلاك الإخوان المسلمين الخبرة الكافية في الحكم وعالم السياسة، وذلك ليس تقليلا من شأنهم أو اتهاما لهم بل هو واقع تحدّده الأحداث وحقيقة يعترف بها الإسلاميون أنفسهم، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى حرمانهم من ممارسة السياسة والاقتراب من صناعة القرار السياسي طوال فترة وجودهم على الساحة المصرية. لكن عند النظر إلى التجربة التونسية نجد أن حركة النهضة الإسلامية كانت أكثر نضجا حيث أنها لم تسرع إلى ترشيح أحد أعضائها للرئاسة بعد إدراكها أن الواقع في مرحلة ما بعد الثورة سيشهد كثيرا من التحديات والصعوبات وبالتالي فإن أي حزب أو شخص يتولى قيادة البلاد في تلك المرحلة بشكل منفرد قد يفشل في تحقيق تطلعات الشعب الثائر، لهذا رجّحت الحركة التحالف مع الفرقاء السياسيين ذات الأيديولوجية المختلفة بدل تشكيل تحالف من أطراف إسلامية فقط، وذلك حرصا منهم على الانتقال السلس للحكم وسد أي ثغرة قد تستغلها الدولة العميقة للانقضاض على التجربة الديمقراطية كما حدث في مصر.

ثالثا: الاعتبار من النموذج المصري؛ يعد النموذج المصري خير مثال على ضرورة الرضاء بالديمقراطية وإن جاءت بالخصوم والمعارضين لأن البديل سيكون أسوأ بكثير، حيث أصبح المصريون اليوم يترحمون على عهد مبارك، كما بات كثير من الذين رفضوا حكم الإسلاميين هناك وتمردوا على التجربة الديمقراطية يتحسرون على دورهم بعد أن أصبحوا نزلاء في السجون أو غرباء في المنافي أو صامتين بلا نشاط نتيجة عودة العسكر والانفراد في السلطة وانتهاج القمع والبطش وسيلة للتعامل مع أي شكل من أشكال المعارضة السياسية حتى مع أولئك الذين وقفوا مع العسكر في الانقلاب على الحكم الديمقراطي. ووجود هذه التجربة المصرية المريرة جعلت التونسيين يعتبرون من الدرس المصري وتكوّنت لديهم نتيجة لذلك قناعاتٌ أكثر نضجا وأدركوا أن قبول الهزيمة والاستعداد لجولة جديدة من الانتخابات هو أفضل وأقل تكلفة من الانقلاب على الحكم المدني.

رابعا: حياد الجيش عن معترك السياسة؛ حاولت كثير من الأطراف بعد انتصار الثورة التونسية إقحام الجيش في المشهد السياسي إلا أن المؤسسة العسكرية في تونس نأت بنفسها عن معترك السياسية، والتزمت الحياد التام محافظة بذلك على إرث تاريخي محمود حيث لم يحاول الجيش التونسي على امتداد أكثر من 60 عامًا البحث عن أدوار خارج حدود ثكناته، رغم محاولات أطراف عدّة للزجّ به داخل العملية السياسية. وبهذا التوجه الوطني النبيل لقادة المؤسسة العسكرية التونسية أصبح الجيش أكثر المؤسسات الحائزة على ثقة التونسيين في جلّ استطلاعات الرأي، وصان بذلك مستقبل التجربة الديمقراطية وساهم بشكل كبير في نجاحها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.