شعار قسم مدونات

الاستراتيجية النووية بين الماضي والحاضر

blogs قنبلة نووية

مَرَّ العالم عبر تاريخهِ بحروبٍ كثيرةَ، منها ما كان على شكل حربٍ محدودة، ومنها ما تتصف بالعالمية لكون التدخل يشمل عدد من الدول وتأثيرها اجتاح جميع دول العالم، كما أن الاستراتيجية العسكرية والسياسية كانت تتغير مع التطور التكنولوجي وخاصة تطور الأسلحة، وهناك فترة تغيرت بها معظم الاستراتيجيات العسكرية والسياسية، وهي فترة الحرب العالمية الثانية وبالتحديد فترة كارثة ضربِ أمريكا أول قنبلةٍ ذريةٍ لليابان، فعند ظهور هذا السلاح تغيرت استراتيجية الدفاع والهجوم، فالعالم ما قبل السلاح النووي يختلف عن ما هو بعده، فكيف أثر ظهور القنابل النووية على النظام الدولي؟ وما هي نظرية الردع النووية؟ وما هي القوى النووية اليوم؟ ومدى أثر الدول النووية على الساحة الدولية الأن؟

 

في البداية سأشرح عن أثر ظهور السلاح النووي على النظام الدولي. وهذا يظهر بشكل جليّ بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية لضرب المدينتين اليابانيتين هيروشيما وناجازاكي بالسلاح الذري، وانتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة اليابان. فالعالم رأى مدى خطورة هذا السلاح الفتاك، وعلى أثر هذا الأمر، ارتقت الولايات المتحدة الأمريكية على عرش القوى العالمية، وتبعها صعود الاتحاد السوفيتي بعد امتلاكه للسلاح النووي، ليظهر نظام ثنائي القطبية في الساحة الدولية، ليخوض النظام الدولي حرب باردة بين الشرق السوفيتي والغرب الأمريكي.

 

الصراع بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية لمّ يتجاوز الحرب الباردة، فخوض حربٍ عسكريةٍ بينهما يعني خسارة الطرفين

أما الدول الضعيفة والتي ضعفت بعد الحرب العالمية الثانية كانت تريد أن تحمي نفسها من السلاح النووي. فلجأت إلى التحالف مع الدول النووية، إما للاتحاد السوفيتي أو أمريكا، فتزايد منتسبي الدول للأحلاف العسكرية، وخاصة لحلفين الناتو بقيادة أمريكية، وحلف وارسو بقيادة سوفيتية، وكانت الدول تنتسب إليهم ذلك لضمان الحماية من الخطر السوفيتي لمن ينضم إلى حلف الناتو، والعكس تماماً لمن ينضم إلى وارسو ليحمي نفسه من الخطر الأمريكي.

 

إن العامل الأهم لمنع حدوث حربٍ عسكريةٍ شاملة بينهما هو التوازن النووي ووجود قوى ردع نووي بين طرفين الصراع السوفيتي والأمريكي، فما المقصود بالردع النووية؟ إن الردع النووي هو أن يتمّ خلق قوة ردع للسلاح النووي من الخصم، وإن الرادع الوحيد للسلاح النووي هو امتلاك السلاح نفسه، أي أن على الطرفين أن يمتلكا السلاح النووي، (إن ضربتم سأضرب) وهكذا سيتجنب الطرفان الحرب التي قد تسبب بكارثةٍ للطرفين، كما يجب على الدولة بالإضافة لامتلاكها السلاح النووي، أن يكون لها القدرة على الضربة الثانية لتتجنب الضربة الأولى. فالضربة الأخيرة تعني الضربة الاستباقية القادرة على هزيمة الخصمّ بشكل كامل حيث يجعله غير قادر على الرد. وفي البداية كانت هناك القدرة على الضربة الأولى، حيث كان من يضرب أولاً هو من ينتصر، إلا أن الضربة الأولى انتهت بسبب التقدم التكنولوجي فأصبح الخصم قادراً على الضربة الثانية، عن طريق وضع طرفين الصراع صواريخ عابرة للقارات ومحملة بالرؤوس النووية في مناطق لا يعرفها الخصم سواء أكانت في أعماق البحار أو في باطن الأرض أو في الغابات، وقد تكون في مناطق أخرى خارج إقليمها، فإن القدرة على الضربة الثانية تعني إنهاء قدرة الخصم على الضربة الأولى.

 

لهذا إن الصراع بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية لمّ يتجاوز الحرب الباردة، فخوض حربٍ عسكريةٍ بينهما يعني خسارة الطرفين، فمن الصعب خوض حرب عسكرية مباشرة كاملة المعالم بين طرفين يمتلكان السلاح النووي، ومع انتشار السلاح النووي لعددٍ من الدول وتزايد عدد التجارب النووية، ظهر العديد من المعاهدات تحاول منع انتشار وتقليل التجارب النووية، منها معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية في عام 1968.

  

إن واقع السلاح النووي اليوم يختلف عن السابق. حيث ينتشر السلاح النووي لدى تسعِ دول وهم: الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا والهند وباكستان، وكوريا الشمالية، وكما يوجد لدى الاحتلال الإسرائيلي. إن سبب الانتشار وسعي الدول لامتلاك السلاح النووي هو الدفاع وليس الهجوم، حيث تسعى الدول لتحقيق الاستقلالية الدفاعية، عن طريق خلق قوى رادعة نووية. فإن دور السلاح النووي حالياً برغم من الأهمية الكبيرة في الاستقلالية الدفاعية، إلا أنه لا أهمية له من الناحية الهجومية، وذلك بسبب انتشار السلاح النووي لدى دول عديدة وامتلاكها القدرة على الضربة الثانية. فإن الخطر الحقيقي ليس في التوتر العلاقات بين الدول النووية التي ذكرتهم سابقاً، فمن الصعب خوض حرب مباشرة بينهما، ويكتفون بالحد الأقصى في مناوراتٍ بسيطة، إنما يكمن الخطر الحقيقي الآن في وصول وانتشار السلاح النووي لدى جماعات إرهابية أو لدول يحكمها نظام متهور.

 

ظهور السلاح النووي كان له أثر كبير على النظام الدولي. حيث غير الاستراتيجيات العسكرية فقلل أهمية الأسلحة والصواريخ التقليدية، مانحاً الدول النووية قوتاً عسكريةً عظيمة

إن السبب لعدم حدوث حربٍ عسكرية بين القوى العظمى هو وجود توازن في القوى النووية، وهذا يجنب العالم حرباً عالمية ثالثة، حيث أن أطراف الصراع غير معنيين بحربٍ تودي بدولهم للهلاك، فحدوث حرب بين الدول النووية يعني استخدام السلاح النووي، كما أن النظام الاقتصادي العالمي، الذي يشمل التجارة الحرة وفتح الأسواق وانتشار الاستثمارات وغيرها، يمنع الدول من خوض حرب أو حتى من إحداث مناوشات عسكرية بسيطة، حيث يتم الضغط على الدول من الشركات والمصانع الخاصة من داخل الدول نفسها، لمنع إحداث حرب، حيث إن حدوث حرب يؤدي إلى أضرار اقتصادية لطرفين الصراع، بل يتجاوز الأطراف المتصارعة ليُلحق ضرراً اقتصادياً عالمياً.

 

تختلف أشكال الصراع اليوم بين القوى العظمى التي تمتلك الأسلحة النووية، ولكن لمّ ولنّ يصل الصراع لحد حرب عسكرية كاملة بينهما، فطرفين الصراع ودول العالم أجمع لا تريد ذلك، فتكتفي بالمنافسة اقتصادياً. فالحرب التجارية القوية بين الصين وأمريكا التي تصاعدت في الآونة الأخيرة، ألحقت أضرار في الاقتصاد الدولتين كما أثر ذلك على الاقتصاد العالمي، فكيف لو تتطور الأمر ليحدث صراع عسكري بين الدولتين؟  إذاً إن فكرة حدوث حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ هي فكرة ضعيفة جداً. وذلك بسبب أمرين: فالسبب الأول هو وجود توازن نووي بين القوى العالمية، وقدرتهم على الردع بامتلاكهم القدرة على الضربة الثانية. وأما السبب الثاني هو النظام الاقتصادي والمصالح التجارية للدول العظمى التي تمنع حدوث حرب بينهما.

 

برغم من السلاح النووي الذي كان له دور هام في إيقاف الحروب العالمية، إلا أنه كان سبباً لاستغلال الدول النووية العظمى لدول العالم الثالث، فيظهر جلياً استغلال القوى العظمى على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية لدول لا تمتلك قوة الردع، فتستغل مواردهم الأولية من نفطٍ وغازٍ وغيرها، عن طريق استيرادها للموارد الأولية، وبالمقابل تقوم بتصدير الموارد المصنعة لهم، كما أنها تنشر الحروب بالوكالة لتحقيق أهدافها في دولٍ مختلفةٍ، وبالإضافة إلى صنعها لأزمات في الدول لتحقيق مكاسب سياسية تسعى إليها.

  

إن ظهور السلاح النووي كان له أثر كبير على النظام الدولي. حيث غير الاستراتيجيات العسكرية فقلل أهمية الأسلحة والصواريخ التقليدية، مانحاً الدول النووية قوتاً عسكريةً عظيمة جداً، فظهر قطبية ثنائية على الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، قطب غربي أمريكي وقطب شرقي سوفيتي، فظهر أحلاف عسكرية كبيرة على رأسهم حلف الناتو بزعامة أمريكية وحلف وارسو بزعامة سوفيتية. أما اليوم أنتشر السلاح النووي ليصبح ممتلكيه تسع دول، وإن ظهور توازن في القوى النووي بين القوى العظمى اليوم جنب العالم حرب عالمية ثالثة، كما أن تصاعد التجارة العالمية والمصالح الاقتصادية الكبيرة بين الدول العظمى، قلل من دور الأسلحة النووية، فأصبح دورها يقتصر على تحقيق الاستقلالية الدفاعية وخلق قوى رادعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.