شعار قسم مدونات

السلطان سليم الأول.. لماذا فتح بلاد العرب؟

blogs السلطان سليم

نشأت الدولة العثمانية وعيون قادتها ترنو إلى الغرب. كانت أوروبا مرمى لمدافعهم ودربا لجهادهم وهدفا لحملاتهم العسكرية. سحرتهم القسطنطينية وفتنهم جمالها وارتبط اسمها في أذهانهم بحديث حفظوه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول فيه "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش" فعزموا على فتحها وجعلها عاصمة لدولتهم ومركزا لانطلاق حملاتهم إلى قلب أوروبا فاستثمروا لذلك جهودهم وأوقاتهم وصرفوا في سبيله نفيس مواردهم. ولم تكن معظم توسعاتهم شرقا إلا خدمة لفتوحاتهم في أوروبا وتأمينا لها. واستمر الأمر على ذلك الحال حتى صار الأمر إلى سليم بن بايزيد الذي مد ظلال الدولة العثمانية على بلاد الشام ومصر والحجاز. فما الذي دفع العثمانيين إلى التوجه شرقا وفتح بلاد العرب؟

 

لم يكن سليم هو الذي قلب ذلك التوجه الذي انتهجه العثمانيون في فتوحاتهم بل كان مرد ذلك إلى الظروف التي أحاطت بسليم وقت اعتلائه عرش السلطنة. لقد فرضت تلك الظروف على الدولة العثمانية توجيه بوصلة فتوحاتها إلى المشرق العربي خاصة وأنها كانت على احتكاك مباشر بها.

  

التهديد الصفوي في شرق الأناضول

كانت الدولة الصفوية في إيران أول وأعظم تلك الأخطار التي أحاطت بالدولة العثمانية ودفعت سلطانها للتوجه شرقا للقضاء عليها. تأسست الدولة الصفوية فعليا على يد إسماعيل بن حيدر الأردبيلي الذي حمل بعد تأسيسه لدولته وإرساء أركانها لقب الشاه. وعلى عكس المشهور فلم تكن الدولة الصفوية فارسية بالمعنى العرقي للكلمة حيث كانت نواتها وجل دعاتها وجنودها من قبائل الترك. نشأ إسماعيل يتيما مطاردا من قبل مؤسسات دولة الآق قوينلو الأمنية بعد أن قتل أبوه وكثير من أتباعه على يد حاكم إحدى المقاطعات التي ثار عليها وجمع جيشا لمحاربتها. كانت السنوات التي قضاها إسماعيل في الجبال متواريا عن العيون قد علمته قيمة الصبر وسياسة النفس الطويل في الوصول إلى مبتغاه.

 

كان العامل الآخر الذي دفع بالسلطان سليم لحرب الصفويين استعداد الشاه إسماعيل للتحالف مع الممالك الأوروبية ضد المسلمين في سبيل تحقيق أهدافه

لم يكن خطر الدولة الصفوية متمثلا بجيوشها وقدراتها العسكرية فحسب بل كان أيضا بأفكارها التي حمل جيش من الدعاة على عاتقه نشرها بين العامة من الناس والخاصة من النخب الحاكمة. إن الحدود والتضاريس الجغرافية التي يمكنها أن تعيق تقدم الجيوش والفاتحين تقف سهلة معبّدة أمام الأفكار والأيديولوجيات خصوصا إذا توفر المناخ المناسب لمثل تلك الأفكار. كان التصوف الذي اتسم به ذلك العصر من أكبر العوامل الذي ساعد على انتشار الدعوة الصفوية حيث أنه لم يكن تصوفا قائما على الزهد بقدر ما كان تصوفا منحرفا قائما على كرامات وخوارق الأولياء ومناجاتهم من دون الله تعالى. وأسفرت الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية السيئة التي خلفتها الحروب والنزاعات بين أمراء دولة الآق قوينلو التي كانت تحكم تلك البلاد إلى سعي شعوب تلك المنطقة للخلاص بأي وسيلة ممكنة من تلك الحالة المزرية.

 

كان النهج الذي سلكه الشاه إسماعيل في توسعه قائما على استئصال المذاهب الإسلامية الأخرى وعلى رأسها المذهب السني باستخدام وسائل الترغيب تارة ووسائل الإرهاب والتعذيب تارة أخرى إضافة إلى إتخاذه المذهب الاثنى عشري مذهبا رسميا وحيدا في أرجاء دولته. كانت رؤية الشاه قائمة على صهر شعوب وأمم المنطقة المختلفة تحت لواء مذهب يضمن له السلطة المطلقة كما يضمن ولاء وتبعية أصحاب هذا المذهب له حتى وإن كانوا مواطنين في دول أخرى. لذلك قام الشاه إسماعيل بالسير على خطى آبائه بادعاء نسبتهم لآل البيت عليهم السلام وادعى المهدية واضعا بذلك حدا أمام اجتهادات علماء الشيعة أنفسهم وسقفا لحرية حركتهم ودورهم في المجتمع لم تزل إلا بزوال الدولة الصفوية نفسها. وهكذا أصبح أتباع المذهب الاثنى عشري في المناطق المجاورة وخاصة شيعة الأناضول يهاجرون إلى البلاد الواقعة تحت حكم الشاه ليصبحوا وقودا لحملاته في أرجاء البلاد. كانت هجرات الشيعة من الأناضول العثماني إلى إيران أولى بشائر الصدام بين الصفويين والعثمانيين فقد بينت لرجال الدولة العثمانية أن ارتباط وولاء هؤلاء كان للشاه ودولته لا للسلطان العثماني والعثمانيين. إلا أن الصدام بين الدولتين غدا حتميا عندما أصبح الصفويون يستغلون شيعة الأناضول لإثارة القلاقل والفتن وإشعال الثورات المسلحة ضد العثمانيين.

 

كان العامل الآخر الذي دفع بالسلطان سليم لحرب الصفويين استعداد الشاه إسماعيل للتحالف مع الممالك الأوروبية ضد المسلمين في سبيل تحقيق أهدافه. لم يكن الشاه يرى في دعوته الدينية أكثر من أداة يستخدمها لتوسيع وترسيخ سلطات الدولة بيده على حساب رجال دولته ومواطنيها.

 

جور المماليك في بلاد العرب

كانت دولة المماليك قد بلغت حالة من الضعف أصبحت تعيش معها على هامش الأحداث كالمريض الذي ينتظر الموت. وتحول أمراؤها من سلاطين يذودون عن حمى الدولة وعرى بلاد المسلمين وينظمون شؤونها ويرعون مصالحها إلى طواغيت قساة لا شاغل لهم إلا كنز المال والذهب والعيش في حالة من الكسل والخمول على دماء شعوبهم وأرزاقها. لم يعد حال البلاد الآخذ في التدهور يهم سلاطين المماليك فلا تراهم يصلحون جسرا ولا قناة إلا ما ندر ولا يسعون في مصالح الناس. وتحولت الطرق التجارية في أواخر عهدهم إلى مأوى لقطاع الطرق واللصوص فعم الخراب والفوضى وقل الأمن وكسدت التجارة. وقد أدى ارتفاع الضرائب وفرض المكوس على الغلال والمحاصيل الزراعية وفرض أتاوات الحماية على القوافل التجارية ومصادرة أملاك الناس بغير وجه حق إلى هجر الفلاحين لأراضيهم الزراعية وترك التجار للتجارة. ولم يقتصر تسلط السلاطين والأمراء المماليك على أموال العامة فقط بل تجاوزوه للتعدي على أوقاف المسلمين والمخصصات المالية التي كانت تخصصها للأرامل والأيتام وكم من يتيم بات على أبواب قلعة السلطان وقد أبكاه الجوع واهتزت أطرافه لأنه لا يجد ما يستر جسده الضعيف من البرد.

 

لقد تحولت القوة العسكرية في أواخر أيام المماليك إلى أداة للبطش والفتك بعامة الناس وتحصيل الضرائب الجائرة منهم عنوة وتنفيذ الإعدامات على الشبهة ولأتفه الأسباب في الوقت الذي كانت فيه على الصعيد العسكري الخارجي تنتقل من فشل إلى آخر. وأدت سياساتهم الاقتصادية الغير مدروسة وتنازعهم المستمر على السلطة إلى ارتفاع معدلات التضخم والأسعار وانخفاض معدلات الإنتاج الأمر الذي تمخض عنه عدد من المجاعات التي حصدت أرواح الكثيرين وكان على رأسهم طلاب العلم والفقهاء.

 

أقامت البرتغال لأساطيلها مستعمرات على شواطئ إفريقيا وعلى سواحل عمان والهند وأصبحت أساطيلها تهدد الطرق التجارية البحرية بين الهند والخليج العربي

كان حال العرب في بلاد الشام ومصر تبكي له العين وينزف له القلب فبينما كان السلاطين وأعوانهم ينعمون بالموائد العامرة والملابس الفاخرة والخدم والحشم والجواري كان عوام الناس لا يكادون يحصلون على قوت يومهم. إن الظلم لا يقيم دولة ولا يصلح حالها فهو كما يقول ابن خلدون مؤذن بخراب العمران. ومن عجيب الأمر أن سلاطين المماليك لم يتنبهوا إلى أن سياساتهم الاقتصادية والاجتماعية الجائرة أول ما تنكل بدافع الضرائب نفسه أي بالمواطن الذي تقوم الدولة وموازنتها المالية به ولم يعلموا بأن ثراء ورفاهية المواطنين إنما هو ثراء للدولة وزيادة في تحصيلاتها الضريبية.

 

لقد دفعت تلك السياسات الجائرة أبناء وعلماء بلاد الشام ومصر إلى مراسلة السلطان سليم لينجدهم من بطش وجور المماليك وتمخض عن الاستبداد الذي مارسه سلطان المماليك أن دفع عدد من ولاته وأمراءه إلى الانشقاق عنه والانضمام للسلطان العثماني.

 

البرتغاليون على سواحل الجزيرة العربية

لقد ساهمت الأوضاع السابقة جميعها في جعل البلاد العربية والإسلامية مطمعا للمحتلين أو كما يقول مالك بن نبي قابلة للاحتلال. كان البحارة البرتغاليين قد استطاعوا اكتشاف رأس الرجاء الصالح والالتفاف حول القارة الإفريقية. وأقامت البرتغال لأساطيلها مستعمرات على شواطئ إفريقيا وعلى سواحل عمان والهند وأصبحت أساطيلها تهدد الطرق التجارية البحرية بين الهند والخليج العربي وتدمر وتستولي على سفن المسلمين التجارية. إضافة إلى ذلك فقد كانت أساطيل البرتغاليين تسعى للإغارة على ميناء جدة واحتلال المدن الإسلامية المقدسة.

  

لقد حاول المماليك وضع حد لممارسات البرتغاليين إلا أنهم فشلوا في ذلك فشلا ذريعا. إن من يقارن حال المماليك في حربهم مع جيوش المغول في معركة عين جالوت وحالهم مع البرتغاليين يرى قيمة العدل ورفع المظالم وأثرها في تعزيز الاصطفاف الوطني ضد الأخطار الخارجية. إن شعوبنا ذات العزيمة الحية والإرادة الصلبة لا تهزمها أساطيل العدو ولا جيوشه إنما تُهزم حينما تهزم من داخلها أولا.

 

وختاما فقد كانت هذه بعض الأسباب التي دفعت بالسلطان سليم إلى توجيه بوصلة فتوحاته إلى الشرق والجنوب لتأمين شرق الأناضول وضم بلاد العرب والأكراد إلى دولته باعتباره القائد الوحيد القادر على لم شتات المسلمين وصون حقوقهم والدفاع عن بلادهم. لقد كان العثمانيون بكل بساطة الوحيدين القادرين على وقف الزحف البرتغالي والحد من آثاره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.